ميدفيديف يدعو إلى الزحف صوب كييف و”إعادة أوديسا إلى أحضان الوطن”
بوتين مصافحاً شويغو خلال مراسم وضع إكليل من الزهور على ضريح الجندي المجهول في موسكو، الجمعة 23 فبراير الحالي (أ ب)
لم يكن هناك من يتوقع أن يطول القتال، وتستمر العمليات العسكرية حتى ذلك الحد الذي بلغ العامين. وعلى رغم البداية العاصفة التي نجحت القوات الروسية معها في الوصول إلى العاصمة الأوكرانية كييف لتفرض عليها حصارها، فيما أطبقت بكامل سيطرتها على خاركيف والمناطق الشمالية من أوكرانيا، فقد عادت وقررت الانسحاب الطوعي من هذه المناطق، في إطار ما توصلت إليه مع الجانب الأوكراني من اتفاق في “محادثات إسطنبول” التي جرت تحت رعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو الاتفاق الذي قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن أوكرانيا عادت ورفضته بإيعاز من رئيس الحكومة البريطانية الأسبق بوريس جونسون. ولم تقتصر السلبيات عند هذا الحد، حيث سرعان ما عادت روسيا لتقرر انسحابها من مدينة خيرسون، وكثير من الأراضي التي دانت لها في مقاطعة خاركوف في بداية “عمليتها العسكرية الخاصة”، وهو ما تداركه بوتين في ما أقره من تغييرات طاولت السياسات المتعلقة بـ”التكتيك” و”الكوادر”، دون التخلي قيد أنملة عن استراتيجيته وما أعلنه من أهداف.
وها هي روسيا وقد نفضت عن كاهلها أوهام الوفاق والاتفاق مع “الغرب”، واستعادت كثيراً من تراث ماضيها المجيد بكل ما حفل به من انتصارات، ومنها ما يعود إلى قرون طويلة مضت، مقتفية خطى بطرس الأعظم، وهدياً بما سبق وقاله هنري كيسنجر، عميد الدبلوماسية الأميركية الأسبق، حول “الإيمان الصوفي لبوتين بالتاريخ”، وذلك في وقت يتحول فيه بوتين إلى تنفيذ ما سبق وأعلنه في ميونيخ في مؤتمر الأمن الأوروبي في فبراير (شباط) 2007 من رفض لعالم القطب الواحد، وعودة لتراث الأسلاف والاعتماد على الذات، انطلاقاً من قدرات بلاده ومواطنيه، متجاوزاً سلبيات العام الأول من “عمليته الروسية العسكرية الخاصة في أوكرانيا”.
كيف حقق بوتين “انتصاراته”؟
عاد رئيس الدولة الروسية إلى تأكيد أنه لا يزال يعتبر شعب أوكرانيا شقيقاً، ويصف الأحداث التي تجري في الدولة المجاورة بالمأسوية، فيما أعلن أن ما تقوم به القوات الروسية في إطار ما سماه “العملية العسكرية الخاصة” الجارية ليس سوى نتيجة لسياسات “دول ثالثة”. ومن هنا كانت الخطوات التي استهدفتها روسيا لتحسين قواتها المسلحة، بما طرأ عليها من تغييرات “في هدوء وإيقاع ومن دون أي ضجة”. وهي التغييرات التي قامت بها القيادة العسكرية بصورتها الجديد بعيداً من “الشرذمة”، وتدخل “القطاع الخاص” الذي كانت فرضته الأحداث تحت لافتات على غرار “فاغنر” وغيرها من التنظيمات الإقليمية، إلى جانب الإعلان عن زيادة عدد القوات المسلحة إلى 1.5 مليون شخص، ورفع سن التجنيد إلى 21 عاماً، فضلاً عن إنشاء منطقتي موسكو ولينينغراد العسكريتين. ويشير الخبراء إلى أن مثل هذه التدابير والإجراءات تم تطويرها مع الأخذ في الاعتبار واقع المنطقة العسكرية الشمالية، وكان سببها ما أعلنه حلف شكال الأطلسي (الناتو) من توسع شمل كلاً من فنلندا والسويد. وأعلن بوتين عن نقطة تحول في عدد من مجالات “العملية العسكرية الروسية الخاصة” بفضل الطيارين وما قاموا به من عمليات. وقال بوتين إن القوات الروسية تمكنت من تحقيق الاختراق في الاتجاهات الصعبة على صعيد العمليات العسكرية في أوكرانيا بفضل قوات الفضاء الجوي، بما استخدمته من صواريخ “فرط صوتية”، طاولت أهم مؤسسات صناعة القرار في العمق الأوكراني.
الدروس المستفادة
وها هي القوات الروسية تنهي مع حلول الذكرى الثانية للحرب، من عملية الاستيلاء على مدينة “أفدييفكا” بكل ما تعنيه هذه المدينة من موقع استراتيجي، وأهمية تاريخية، والتي كثيراً ما اعتبرها الجانب الأوكراني منطقة محصنة والأكثر تعقيداً من بين التحصينات التي شيدها في غضون ما يقارب 10 سنوات منذ بداية الأزمة الأوكرانية في عام 2014. ويقول مراقبون إن القوات الروسية “خبرت الحرب، وتعلمت القتال بمستوى جديد نوعياً”. كما لخص الخبراء نتائج عامين من التدريب العسكري في ما أحرزه الجاب الروسي من انتصارات، وبما “حررته” روسيا من مدن وأراض على غرار “ماريوبول” على ضفاف البحر الأسود، التي ثمة من وصفها بستالينغراد، وباخموت أو “ارتيوموفسك” بحسب ما يسميها الناطقون بالروسية، فضلاً عن ترسيخ مواقعها في ما يناهز 20 في المئة من الأراضي الأوكرانية. وثمة من يقول إن الأمر استغرق وقتاً لتعلم كيفية التعامل مع العمليات القتالية ذات الكثافة غير المسبوقة.
وكانت المرحلة السابقة كشفت عن كثير من السلبيات التي نجمت عن التخلف النسبي في مجال التقنيات العالية وعدم الاستعداد الكافي من جانب المجمع العسكري الصناعي، وهو ما حرصت روسيا على تجاوزه بما صارت تمتلكه من صواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت، ومحركات جديدة تعمل بالوقود النووي، وأنظمة متنوعة للدفاع الجوي، إضافة إلى استخدام المسيرات بمختلف أنواعها، وإعادة تشغيل مصانع القذائف والذخيرة السوفياتية المتوقفة، والتي ثمة من يقول إنها “هدية من الماضي من الأسلاف الذين يواصلون دعم روسيا”، وذلك في وقت يعترف فيه الجانب الأوكراني بتخلفه، ونقص ما يملك من الذخيرة والأسلحة.
ويقول أندريه كلينتسفيتش، رئيس مركز دراسة الصراعات العسكرية والسياسية، “إن الجندي الروسي تعلم الحفر في الأرض، وإنشاء المدن تحت الأرض في حقل مفتوح ببنية تحتية واسعة النطاق غير مرئية على السطح. ولأول مرة لا يفهم الأشخاص الذين يجدون أنفسهم في هذه الملاجئ أنهم تحت الأرض، فكل شيء هناك جيد جداً ومضاء ومجهز”. كما أن المعدات السوفياتية، التي اعتبرها البعض “ليست جميلة ومثيرة للإعجاب مثل المعدات الغربية، يتضح أنها موثوقة للغاية، وقابلة للصيانة وأكثر فاعلية في ساحة المعركة”. وننقل عن ضابط القوات الخاصة السابق، العقيد المتقاعد أناتولي ماتفيتشوك، ما قاله حول إنهم أدركوا “التغيرات الخطرة في الوضع في ساحة المعركة. لقد تحول العامل الرئيس للنصر بصورة أكبر نحو الطائرات من دون طيار. ومع أخذ هذه التغييرات بعين الاعتبار، إذ أصدرت قيادة القوات المسلحة المواصفات الفنية للصناعة لإنتاج أنواع جديدة من مثل هذه الأسلحة”.
وكان الرئيس بوتين أشار إلى أن العمليات في المنطقة العسكرية الشمالية حددت أيضاً القضايا التي يجب معالجتها على الفور. وأكد ضرورة تحسين الاتصالات، وأنظمة التحكم الآلي للقوات والأسلحة، والتكتيكات المضادة للبطاريات، وتحديد الأهداف، وما إلى ذلك. كما شدد على أنه “من المهم زيادة القدرات القتالية للقوات الجوية الفضائية، بما في ذلك عدد المقاتلات والقاذفات عندما تعمل في منطقة تغطية أنظمة الدفاع الجوي الحديثة”. كما توقف عند أهمية تحسين المسيرات، بما في ذلك الطائرات الاستراتيجية والاستطلاعية، وكذلك طرق استخدامها. وبحسب الرئيس، يجب أن تمتلك جميع الفرق والفصائل والسرايا والكتائب الروسية ترسانة من هذه الأسلحة.
حياة أو موت
وها هم المراسلون العسكريون ينتشرون في الأراضي التي كانت ترفع حتى الأمس القريب علم أوكرانيا ومعه كثير من اللافتات العدائية لروسيا، يقولون إنه “لم يعد هناك مزيد من الأوهام. لقد تمزقت كل الأقنعة، ونرى الآن ابتسامة آكلي لحوم البشر، وعيون مليئة بالكراهية والرغبة في تمزيق روسيا. كما يواصل الغرب محاولاته للحفاظ على هيمنته بأي ثمن. ومن الواضح أن أوكرانيا، حتى مع كل المساعدات العسكرية الضخمة، لن تكون قادرة على حل مهمة واحدة. وسيستمر عذابها لبعض الوقت، وستفقد كل أراضيها. وفي الوقت نفسه، لن نتبع خطى أولئك الذين يريدون لنا التورط في القتال مع حلف شمال الأطلسي”. أما القيادات الروسية فتبدو أقرب إلى الإجماع حول أن “روسيا ستخرج من هذا الصراع كقوة أقوى مما كانت عليه، عندما اعتقدت أن لديها شركاء غربيين، وأن هؤلاء الشركاء الغربيين سيلتزمون اتفاقات مينسك، وغيرها مما قد ينطبق عليه وصفه بالأوهام، وبما يمكن أن نصل معه إلى استنتاج مفاده أنه إذا تفاوضت روسيا مع الغرب، فسيكون ذلك بعد انتهاء العملية العسكرية الخاصة واستكمال مهمتين رئيستين – نزع السلاح، وتطهير أوكرانيا من النازية. كما أنها ستتفاوض، أولاً وقبل كل شيء، بحسب شروطها”.
وها هو سيرغي شويغو، وزير الدفاع الروسي يقدم تقريره عن “تحرير أفدييفكا” إلى بوتين القائد الأعلى للقوات المسلحة الروسية قائلاً “إن المقاتلين تمكنوا من تحريك الخط الأمامي بعيداً من دونيتسك، وأن القوات الروسية احتلت مساحة 31.75 كيلومتر مربع، إلى جانب إشارته إلى مصرع أكثر من 2500 جندي أوكراني في معارك أفدييفكا”. ومن الملاحظ أن وزير الدفاع الروسي بدا أكثر انشراحاً وبهجة بما يتوقف عنده في تقريره إلى القائد الأعلى من أهداف جديدة. ولذا عاد ليقول إن جنوده استولوا على بلدة “كرينكي” ذات الأهمية الاستراتيجية في مقاطعة خيرسون، فيما دعا دميتري ميدفيديف، الرئيس السابق، نائب رئيس مجلس الأمن القومي الحالي، إلى مزيد من الزحف الروسي غرباً صوب العاصمة كييف، فضلاً عن ضرورة الاستيلاء على مدينة “أوديسا” (على ضفاف البحر الأسود)، وإعادتها إلى أحضان الوطن، وهي التي سبق للرئيس بوتين الاعتراف بأنها “مدينة روسية”.
وكان بوتين قد استعرض خلال الأيام الأخيرة أحدث إنجازات الصناعات العسكرية الروسية بطلعة استغرقت نصف الساعة مرافقاً لطيار القاذفة الروسية Tu-160M التي ثمة من يقارنها بمثيلتها القاذفة الأميركية 21- B، وهي التي وصفها المتخصص العسكري الروسي أليكسي ليونكوف بأنها تتفوق على نظيراتها الأميركية B-21، وبأنها “عنصر رهيب في الثالوث النووي” (البري والجوي والبحري). وقال ليونكوف: “نحن أمام طائرة حديثة تماماً تتفوق في خصائصها على التصميم الأميركي للطائرة B-21 ، إذ لا يزال الأميركيون يراهنون على عدم رؤية الطائرة على حساب خصائصها “البهلوانية”. ولكن نظراً إلى تصميمها، فإنها لا تستطيع تنفيذ مناورات بسرعات أقل من سرعة الصوت”، مضيفاً “إن طائراتنا قادرة على المناورة، ومع المقاتلات الحديثة التي سترافقها ستكون إما “سو-35” من الجيل “4++” أو “سو-57″ بحيث تصبح عنصراً رهيباً في الثالوث النووي، للعمل ضد أهداف دولة معتدية أو عدوة تتطاول على سيادتنا”.
وفي هذا الصدد لا يترك الرئيس بوتين مناسبة وطنية، إلا ويعرب فيها عن كامل يقينه بأن النصر لا بد أن يكون حليف روسيا. كما يتوقف بوتين دوماً عند ما حققته بلاده من انتصارات على النازية إبان سنوات الحرب العالمية الثانية التي تسميها روسيا “بالحرب الوطنية العظمى”. وها هو يعود ليقول إن “ذكرى النصر مقدسة للبلاد، والحفاظ عليها هو موقف مبدئي لروسيا ومجتمعها”.