أحمد طلب
النجاح يولد إغفال احتمال الفشل – هيمان مينسكي.
وسط التفاؤل الذي سيطر على المؤسسات المالية العالمية مؤخرًا بشأن النمو الاقتصادي، وبالخصوص الاقتصاد الأمريكي – أكبر اقتصاد في العالم – فإن احتمالية تأزّم الاقتصاد العالميّ تبقى قائمة، إذ إن الثقة الزائدة في السوق كانت أهم أسباب الأزمة المالية في 2008 حين أغفل الجميع احتمال وقوع الأزمة، وسط الإسراف في التفاؤل الذي قاد تلقائيًا إلى الإسراف في المضاربة والمخاطرة، وقد كانت النتيجة هي الأزمة الكبيرة التي ضربت الاقتصاد العالميّ قبل 10 سنوات.
يمكن القول إن الأزمات المالية غالبًا ما تكون خارج إطار التوقعات، فمنذ أزمة 1987 – أو ما عُرف بـالاثنين الأسود – عندما اختفت ملايين الدولارات من أسواق الأسهم في كبرى البورصات العالمية، والتي لا يعرف حتى الآن السبب الحقيقي وراء ما حدث؛ لم يكن أحد يتوقع أن تفقد بريطانيا نحو 60% من قيمة اقتصادها. بينما في 1997، إبان الأزمة المالية في أسواق شرق آسيا، تحول الانتعاش الاقتصادي الآسيوي بين يوم وليلة إلى كارثة اقتصادية خسر على إثرها الاقتصاد التايلاندي 75% من قيمته، وذلك أيضًا دون سابق إنذار.
على الجانب الآخر، لم يكن أحد يدرك أن التقلبات السعرية الكبرى في روسيا عام 1998، ستنتهي بكارثة مالية ضخمة (كارثة الروبل) ضربت الاقتصاد الروسي، وجعلت جميع المؤسسات المالية العالمية عاجزة عن التدخل.
كل هذه التجارب السابقة تشير إلى أنه لا يمكن الجزم بأن هناك أزمة مالية على الأبواب، كما لا يمكن معرفة الموعد الذي قد تقع فيه الأزمة، ولكن وبحسب جيس ستالي، الرئيس التنفيذي لشركة «باركليز بي إل سي»، فإن الفترة الحالية التي يمر بها الاقتصاد العالمي تشبه تلك الفترة التي سبقت الأزمة المالية العالمية، موضحًا أن ظروف الأسواق المالية تذكره بعام 2006.
«نستعد لأسوأ السيناريوهات»، هذا ما أكده أيضًا المديرون التنفيذيون في «جي بي مورجان» ومجموعة «جولدمان ساكس»، خلال الجلسة التي عقدت بالمنتدى الاقتصادي العالمي «دافوس» مؤخرًا، بعنوان «الأزمة المالية المقبلة».
ولكن يبقى السؤال مطروحًا بقوّة: هل نحن على أعتاب أزمة مالية؟ في الواقع هناك مؤشرات ربما تثير الكثير من القلق، وقد تشكل ناقوس خطر يهدد الاقتصاد العالمي في حال تفاقم أيٍّ منها، وسنلقي خلال السطور القادمة نظرة عامة على هذه المؤشرات، وكيف يمكن أن تقود العالم نحو أزمة مالية.
أزمة سنة 2008 ما زالت في الذاكرة
عندما يأتي المنعطف التالي – وسوف يأتي – فمن المرجح أن يكون أكثر عنفًا مما كان عليه *مايكل كوربات.
قال كوربات، الرئيس التنفيذي لسيتي جروب، هذا التصريح قبل أيام من السقوط العظيم – بحسب وصف شبكة «إيه بي سي» الأمريكية – لمؤشرات سوق الأسهم الأمريكية في بداية فبراير (شباط) الجاري، وخاصة مؤشر داو جونز الذي فقد حوالي ألف نقطة، وهو الهبوط الأعنف في تاريخ المؤشر، مسجلًا أكبر انخفاض له على الإطلاق في يوم واحد، ولكن هل هذا الانخفاض يمكن أن يؤدي إلى أزمة مالية؟
هذا سؤال في غاية الأهمية، والإجابة عنه هي: على الأرجح يمكن أن يؤدي مثل هذا الانخفاض إلى أزمة مالية، فبعد هذا الانخفاض مباشرة غرقت الأسواق المالية العالمية في «بحر من الدم»، فاللون الأحمر لم يفارق أي بورصة في العالم تقريبًا في هذا اليوم، إذ فتحت الأسواق في أوروبا على تراجع حاد بنحو 3.43% في بورصة باريس و3.5% في لندن و3.3% في مدريد و3.6% في أمستردام، وكذلك الوضع في الأسواق الآسيوية، فقد تراجعت طوكيو بنسبة 4.73%، وخسرت هونج كونج 5%، وهبطت شنجهاي بأكثر من 3%.
هذه النسب ورغم أنها لا تبدو مرعبة من الوهلة الأولى إلا أنها كلفت الاقتصاد العالمي أكثر من 5 تريليونات دولار في يوم واحد. وتكمن أهمية داو جونز في حد ذاته أنه في أكثر من أزمة، كان هبوط هذا المؤشر علامة مميزة، ففي 15 أكتوبر (تشرين الأول) 2008، انخفض بنسبة 7.9% وسط الأزمة المالية العالمية، وفي 19 أكتوبر 1987، فقد داو جونز 22.61%، وأعقب ذلك يوم الثلاثاء الأسود في أستراليا.
وبحسب شبكة «إيه بي سي» فإن هذا الانهيار الذي حدث منذ أيام قد لا يكون الأسوأ بالنسبة لمؤشر «داو جونز» تحديدًا، بل الأسوأ ما زال قادمًا، في إشارة إلى أن هذا الانهيار ربما يكون البداية فقط، لكن على الجانب الآخر هناك من يرى أن ما حدث هو مجرد موجة تصحيحية ضرورية، وعلى رأس هؤلاء المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستين لاجارد، والتي دعت إلى عدم القلق حيال تبعات التقلبات الأخيرة في الأسواق المالية قائلة: «الارتياب الذي أصاب الأسواق في الأيام الماضية لا يقلقني، من الواضح أن هذه التحركات ناجمة عن تصحيحات ضرورية».
المثير أكثر فيما يخص المؤشرات الأمريكية هي أنها حققت نتائج مذهلة بنهاية 2017، في الوقت الذي لم يكن فيه الوضع الاقتصادي يشير إلى ذلك، فعلى مدى عام 2017 بلغت مكاسب داو جونز 25.1%، وستاندرد آند بورز 19.4%، وناسداك 28.2%، وهو الأمر الذي اعتبره بعض الاقتصاديين بمثابة فقاعة بدأت الانفجار مؤخرًا في ظل التراجعات الحادة التي حدثت، وهو ما يعد مؤشرًا سلبيًا بالنسبة للوضع العام.
الخبراء يحذّرون.. وصندوق النقد يطمئن
الشيء الوحيد الذي أخافه هو عدم وجود الخوف.
*لورانس سامرس، وزير الخزانة الأمريكي السابق.
تفاؤل لاجارد بشأن الوضع الحالي، وكذلك التوقعات التي خرجت عن صندوق النقد الدولي بشأن النمو الاقتصادي العالمي في 2018 قد لا يكون مؤشّرًا إيجابيًّا بالضرورة، إذ يقابل هذا التفاؤل أصواتًا تحذر من أن الأسواق العالمية معرضة لخطر كبير، كما يتحدث خبراء عن أن مرحلة الانتعاش الاقتصادي الوهمي قد تنتهي هذا العام، إلا أن البيت الأبيض يتبنى نفس نظرة لاجارد المتفائلة، موضحًا أن الاقتصاد الأمريكي ما زال «قويًا للغاية».
وفي نهاية يناير (كانون الثاني) الماضي، قال صندوق النقد الدولي إن مستقبل الاقتصاد العالمي يبدو باعثًا على التفاؤل، إذ جاءت توقعات النمو الجديدة بنحو 3.9% لهذا العام والعام المقبل، وهي توقعات أسرع مقارنة بالعامين الماضيين، إذ يرى الصندوق أن 75% من النشاط الاقتصادي العالمي قد تحسن خلال العام الماضي.
لكن جاك أتالي، الذي شغل منصب رئيس البنك الأوروبي للتنمية في التسعينيات، وهو صاحب عدّة كتب حول الاقتصاد العالمي، يرى أنه رغم تخيل أن الأزمات المالية مستبعدة في ظل عجلة النمو التي تدور، فإن ثمة مؤشرات توحي بخلاف ذلك، أبرزها: تضخم معدلات الدين وتسجليها معدلات قياسية، فالدين العام والخاص في الدول الأربع والأربعين الأكثر ثراء بلغ 235% من الناتج المحلي، في حين سجلت 190% فقط في 2007 قبل الأزمة المالية الأخيرة، بالإضافة إلى المغالاة في تقدير قيمة أصول الشركات وتزييف أسعارها من خلال عمليات الدمج.
وتابع أتالي: «إن ترجيح احتمال تخفيف قيود التشريعات الأمريكية المصرفية التي أرسيت إثر الأزمة المالية في 2007، يشير أيضًا إلى أخطار جديدة» وهو الأمر الذي يتبناه ترامب وتحدث عنه في أكثر من مناسبة، لهذه الأسباب يرى أتالي أن الذُعر آت لا محالة، سواء كان بعد شهر أم عام أم 10 أعوام، فما أن يدرك الدائنون أن ديونهم لن ترد لهم، ستندلع موجة الذعر.
انتهاء التيسير الكمي
لن يكون هناك سوى عدد قليل من الأدوات التي يمكن التعامل معها في حالة حدوث أزمة مالية، ليس هناك خطة للبنوك المركزية.
*كين روجوف – أستاذ الاقتصاد في جامعة هارفارد.
غالبًا ما يقع على كاهل البنوك المركزية العالمية المهام الأكثر حساسية خلال الأزمات المالية، وبالنظر حاليًا إلى الوضع في البنكين المركزيين الأهم في العالم (الفيدرالي الأمريكي – المركزي الأوروبي)، قد يكون الوضع ضبابيًا بعض الشيء، إذ إن الانهيار الذي حدث في بورصة نيويورك، مؤخرًا كان في نفس اليوم الذي تسلم فيه جيروم باول منصبه رئيسًا للاحتياطي الفيدرالي خلفًا لجانيت يلين، التي كانت تتبع سياسة حذرة جدًا، في حين أن باول الذي عينه ترامب، ربما لن يسلك الطريق نفسه بل على الأرجح سيلجأ لسياسة نقدية توسعية.
على الجانب الآخر، فإن المركزي الأوروبي بات على مسافة قريبة جدًا من إنهاء التيسير الكمي – طبْع أموال لضخ سيولة في السوق مباشرة أو من خلال شراء أصول حكومية لإنعاش الاقتصاد -، فيما حذر وزير المالية الألماني وولفغانغ شوبل خلال حديث لصحيفة «فاينانشال تايمز» في أكتوبر الماضي، من أن الاقتصاد العالمي قد يشهد أزمة مالية جديدة، بسبب اتباع البنوك المركزية سياسة نقدية توسعية، وهو ما قد يؤدي إلى فقاعات جديدة، مماثلة لتلك التي حدثت في 2008.
بينما يرى رئيس البنك المركزي الأوروبي، ماريو دراجي أنه ما زالت هناك حاجة إلى تيسير نقدي «سخي»، لأن أي خطوة سابقة لأوانها أو متسرعة قد تبدد العمل الذي أنجزه البنك، لكن الفيصل في هذا الأمر يبقى هو مدى استعداد الأسواق المالية لقبول انتهاء سياسة التيسير الكمي، لأن عدم الاستعداد يعني صدمة مالية قد ينتج عنها أزمة كبيرة.
حرب تجارية على الأبواب
ما يبعث على مزيد من القلق هي الأخطاء السياسية إما في الولايات المتحدة أو في الصين، والتي قد تقود إلى أزمة اقتصادية عالمية – ناريمان بهرافيش، كبير الاقتصاديين في إهس ماركيت.
عندما قال وزير الخزانة الأمريكي ستيفن منوتشين، خلال مشاركته بالمنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا الشهر الماضي: «إن تراجع الدولار أفاد الميزان التجاري»، أصبح لدى الكثيرين شبه قناعة أن هذا التصريح هو إعلان لحرب تجارية عالمية، سيكون الدولار السلاح الأهم فيها، إذ إن خفض الدولار يهدف لتعزيز القدرة التنافسية للصادرات الأمريكية، لكن هذه الحرب التي ستبدأ بحرب العُملات ستنال من الصادرات الأوروبية واليابانية والصينية، أو بمعنى آخر ستنال من كل الاقتصادات العالمية، وهو ما يدفع الاقتصاد العالمي بالطبع لأزمة مالية عالمية لن تكون أقل حدة من أزمة 2008.
يرى الخبراء الاقتصاديون أن الحرب التجارية ستنال من التجارة العالمية بشكل عام، ولن تدعم صادرات أمريكا فقط، لأن الحرب لا يكون لها طرف واحد فقط، وهو أمر يثير الذعر بالأسواق بكل تأكيد، وهو ما دفع جاكوب فرينكل رئيس شركة جي بي مورجان تشيس إنترناشيونال، للتحذير من أن حرب العملات لأغراض تجارية قد تدمر الاقتصاد العالمي، مشيرًا إلى ضرورة منعها «بأي ثمن»، موضحًا خلال تصريحات لوكالة «بلومبيرج» أن حرب العملات هي انعكاس للحمائية في السياسة النقدية.
وفي الواقع قد تكون الحرب قد بدأت بالفعل، فمع بداية هذا العام اتخذت لجنة التجارة الدولية الأمريكية إجراءات مرتبطة بمنتجات صينية مثل صناديق العدة، ومنجنيز السيليكون، وهو ما سيؤدي إلى فرض رسوم كبيرة على تلك الواردات من الصين، ومن الواضح أن البيت الأبيض بقيادة ترامب يعتزم اتخاذ إجراءات ضد واردات الخلايا الشمسية والصلب والألومنيوم من الصين، كما أن ما هو آت أيضًا هو تحرك يستهدف نظام الملكية الفكرية، وممارسة إرغام نقل التكنولوجيا من قبل الشركات الأجنبية التي تعمل في الصين، فهل ستنتهي هذه الحرب بكارثة اقتصادية؟