كيف يمكن لسياسة “الضغط الأقصى” التي يتبعها ترمب أن تقرب طهران وموسكو أكثر من أي وقت مضى
نيكول غرايفسكي
أور رابينوفيتش
الرئيس الإيراني مسعود بزيشكيان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، يناير 2025 (رويترز)
ملخص
التقارب المتزايد بين إيران وروسيا، المدفوع بعزلتهما المشتركة عن الغرب، يثير تساؤلات حول احتمالات التعاون النووي بينهما. بينما كان الغزو الروسي لأوكرانيا نقطة تحول في هذه العلاقة، فإن تصاعد الضغوط الأميركية قد يدفع طهران إلى تعزيز شراكتها مع موسكو، مما يهدد بتغيير التوازنات الإقليمية.
في يوليو (تموز) 2015 سافر القائد السابق لـ “فيلق القدس”، قوة النخبة التابعة للحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني إلى موسكو سراً لمناقشة خطة طوارئ تهدف إلى إنقاذ نظام الأسد في سوريا، الذي كان قد فقد السيطرة على ما يقارب 80 في المئة من الأراضي السورية خلال أربعة أعوام من الحرب الأهلية، وكانت روسيا قد ساعدت لتوها في التوسط لإبرام الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 المعروف باسم “خطة العمل الشاملة المشتركة” (JCPOA).
وجرت رحلة سليماني التي كُشف عنها بعد ثلاثة أشهر في تحد لعقوبات السفر التي فرضتها الأمم المتحدة بسبب البرنامج النووي الإيراني، مما هدد بتقويض الاتفاق، ومع ذلك شكل هذا الاجتماع نقطة انطلاق لتطور العلاقات الإيرانية – الروسية على مدى عقد من الزمن، من تعاون تكتيكي في سوريا إلى شراكة وثيقة اليوم، وتُوج بتوقيع اتفاق شراكة إستراتيجية بين البلدين في يناير (كانون الثاني) 2025.
أجبرت التدخلات الروسية في سوريا موسكو على الموازنة بحذر بين إيران وإسرائيل، تلك الأخيرة التي كانت تربطها بها علاقة دبلوماسية جيدة نسبياً، وفي حين كانت موسكو تنسق العمليات العسكرية مع إيران فقد حافظت في الوقت نفسه على قنوات دبلوماسية مع إسرائيل، بل وعملت حتى على تقييد النفوذ الإيراني في سوريا. إلا أن غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022، إضافة إلى رد فعلها على هجمات “حماس” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 في إسرائيل، أخلّا بهذا التوازن، إذ إن اعتماد موسكو المتزايد على التكنولوجيا العسكرية الإيرانية دفعها إلى تقارب أكبر مع طهران، وبعد عقد من زيارة سليماني أقامت إيران وروسيا علاقات غير مسبوقة عززتها عزلتهما المشتركة عن الغرب والتعاون العسكري في أوكرانيا، وتحولت روسيا التي كانت في السابق إحدى الجهات التي هندست الاتفاق المقيد لبرنامج إيران النووي إلى داعم محتمل لطموحات طهران النووية.
ومع تراجع قوة محور المقاومة الإيراني بسبب رد إسرائيل على هجمات السابع من أكتوبر 2023 وسقوط نظام الأسد واستمرار الحرب في أوكرانيا للعام الثالث، اتجهت موسكو وطهران إلى تعزيز تحالفهما، فتحول الدعم العسكري الإيراني إلى عامل حاسم في الجهود الحربية الروسية، وسرعان ما أصبح تطوير البرنامج النووي الإيراني بمساعدة روسية ورقة ضغط قوية ضد إسرائيل والغرب. بالنسبة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل فإن هذه العلاقة الجديدة تهدد بترسيخ ظهور محور مناهض للغرب أكثر نفوذاً، ومع ذلك فإن حملة “الضغط الأقصى” ضد إيران التي يفضلها كثير من الأوساط داخل إدارة ترمب، قد تدفع بإيران المتجهة نحو التسلح النووي إلى التقارب أكثر من روسيا، وبدلاً من ذلك يجب على الولايات المتحدة أن تمارس مناورة دبلوماسية دقيقة خاصة بها تسعى من خلالها إلى منع إيران من امتلاك أسلحة نووية، ولكن من دون دفع طهران إلى أحضان موسكو.
مهمة صعبة
شكلت سوريا ساحة اختبار رئيسة للتعاون العسكري بين إيران وروسيا، وعلى رغم عدم وجود التزامات دفاعية رسمية أو خبرة سابقة في العمليات المشتركة بين الطرفين لكن موسكو وطهران طورتا أطراً شاملة للتنسيق العسكري والدبلوماسي، بدءاً من التدخل العسكري الروسي في سوريا خريف عام 2015. وسمحت عملياتهما الجوية والبرية المتكاملة والمنسقة لنظام بشار الأسد باستعادة مناطق رئيسة موقتاً مما مدد فعلياً حكم الدكتاتور السوري لعقد آخر، ثم أصبحت آليات التنسيق هذه التي جرى اختبارها في سوريا مفيدة لاحقاً عندما وسعت روسيا تعاونها العسكري مع إيران بعد غزوها أوكرانيا، فاستُخدمت قنوات التعاون القائمة مثل الهياكل القيادية المشتركة وبروتوكولات تبادل المعلومات الاستخباراتية وقنوات التوريد التي نشأت في سوريا، في الحرب ضد أوكرانيا. وإضافة إلى ذلك لجأت روسيا إلى إيران للحصول على الدعم العسكري المباشر وبخاصة في تكنولوجيا الطائرات المسيرة والإنتاج الدفاعي المشترك.
وبالتوازي مع تعاونها العسكري مع إيران، حافظت روسيا على علاقة دبلوماسية حذرة مع إسرائيل، وما بدأ كقناة لتجنب الصدامات العسكرية غير المقصودة في سوريا تطور إلى دبلوماسية نشطة بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فعُقدت 10 اجتماعات رفيعة المستوى بين عامي 2015 و2019، ركزت على دعم روسيا لنظام الأسد والتدخل الإيراني في سوريا، ووافق بوتين على الحد من الوجود الإيراني في سوريا وبخاصة في مرتفعات الجولان القريبة من الحدود الإسرائيلية، وفي المقابل وافق نتنياهو على السماح لقوات الأسد بالعودة لمرتفعات الجولان والحد من الضربات الإسرائيلية في سوريا تجنباً لزعزعة استقرار النظام بصورة أكبر.
استغل نتنياهو علاقته مع روسيا لتعزيز موقفه داخلياً، إذ روج لعلاقته الوثيقة مع بوتين خلال حملته الانتخابية عام 2019 لإظهار نفسه كشخصية بارعة على الساحة الدولية، وفي الوقت نفسه سعت إسرائيل إلى تنفيذ أجندتها الخاصة من خلال إستراتيجيتها المعروفة بـ “الحملة بين الحروب” التي هدفت إلى منع إيران من إقامة بنية تحتية عسكرية دائمة في سوريا وتعطيل خطوط إمدادها لـ “حزب الله” من خلال عمليات سرية وغارات جوية.
قبل الغزو الموسع لأوكرانيا عام 2022 بذلت روسيا جهوداً حثيثة للحفاظ على علاقاتها مع كل من إيران وإسرائيل على رغم سعيهما إلى تحقيق مصالح متضاربة، مما كشف عن صعوبة الحفاظ على التوازن الإقليمي، فمن ناحية اختارت موسكو تجاهل العمليات الإسرائيلية ضد إيران وحلفائها غير الحكوميين في سوريا. ووفقاً لرسائل عبر تطبيق “واتساب” اعترضتها أخيراً “هيئة تحرير الشام” في دمشق، حاولت موسكو حتى ترتيب اجتماع في الكرملين بين الأسد ورئيس الـ “موساد” آنذاك يوسي كوهين أواخر عام 2019 للحد من النفوذ الإيراني في سوريا (لكن الأسد انسحب في النهاية)، ولكن من ناحية أخرى تعاونت موسكو مع إيران لدعم نظام الأسد وكانت تزود “حزب الله” سراً بالأسلحة بصورة مباشرة، ووفقاً للاستخبارات الإسرائيلية فإن أكثر من 70 في المئة من أسلحة “حزب الله” التي ضُبطت في لبنان كانت روسية الصنع وجرى توريدها مباشرة عبر القاعدة البحرية الروسية في طرطوس في سوريا.
وربما كانت روسيا لتتمكن من التوفيق بين علاقاتها مع البلدين لولا غزو أوكرانيا في عام 2022 الذي غير الديناميكيات في سوريا وتسبب في انهيار إستراتيجية الكرملين تحت وطأة تناقضاتها.
ومع تكثيف العقوبات وجدت روسيا نفسها معزولة بصورة متزايدة عن الغرب، مما جعلها ترى في إيران شريكاً موثوقاً به في صراعين، وفي حين سحبت القوات البرية من سوريا إلى أوكرانيا فقد حافظت موسكو على وجودها الجوي في قاعدة حميميم الجوية، لكنها فوضت الدعم البري لحكومة الأسد إلى القوات المدعومة من إيران، وفي البداية أثبتت هذه التعديلات فعاليتها في الحفاظ على النفوذ الروسي في سوريا لكنها رسخت أيضاً الوجود العسكري الإيراني في المنطقة بصورة أكبر، مما أثار قلق المسؤولين الإسرائيليين الذين ردوا بزيادة محاولاتهم الرامية إلى الحد من التدخل الإيراني في سوريا، وبرزت هذه الديناميكية الجديدة بوضوح في مايو (أيار) 2022 عندما استخدمت القوات الروسية في سوريا صواريخ “إس-300” المضادة للطائرات، والمقدمة من روسيا [إلى سوريا] ضد الطائرات الإسرائيلية التي كانت تهاجم أهدافاً في شمال غربي سوريا للمرة الأولى، ومع ذلك التزمت إسرائيل الصمت إلى حد كبير في شأن حرب أوكرانيا حفاظاً على التعاون الروسي في سوريا، وفي مقابلة أجريت في مارس (آذار) 2023 أكد نتنياهو أن الطيارين الإسرائيليين كانوا يحلقون “على مسافة قريبة جداً” من الطيارين الروس، لكن التوازن الدقيق الذي سعت روسيا إلى تحقيقه كان يزداد هشاشة، وجاءت أحداث الهجوم الذي نفذته “حماس” في السابع من أكتوبر 2023 لتقضي عليه تماماً.
لا يمكن إرضاء الجميع
أدى اعتماد موسكو المتزايد على الدعم الإيراني في أوكرانيا إلى تمهيد الطريق لتعاون أعمق بين إيران وروسيا في الشرق الأوسط، ومع تحرك الجهات الفاعلة المدعومة من إيران، بما في ذلك الحوثيون في اليمن والميليشيات في العراق وسوريا في جميع أنحاء المنطقة لمهاجمة إسرائيل بعد السابع من أكتوبر 2023، تخلت روسيا عن أي ادعاء بالحياد، ففي اليمن، وفقاً لصحيفة “وول ستريت جورنال”، زودت موسكو الحوثيين ببيانات الأقمار الاصطناعية عبر عناصر من الحرس الثوري الإيراني لتحسين قدرات الحوثيين على استهداف السفن في البحر الأحمر، ووافقت على صفقة أسلحة بقيمة 10 ملايين دولار معهم بوساطة طهران تحت غطاء حزمة مساعدات إنسانية، لكن هذه الصفقة أُحبطت في نهاية المطاف.
وفي لبنان سهلت روسيا نقل الأسلحة المتطورة إلى “حزب الله”، بما في ذلك الصواريخ المتقدمة الموجهة مضادة للدروع التي استُخدمت لاحقاً ضد أهداف داخل إسرائيل، كما منحت روسيا القوات المدعومة من إيران حرية عمل أكبر في مرتفعات الجولان السورية، وربما كان أكثر المؤشرات دلالة على تغيير موقف روسيا هو رفض بوتين والمسؤولين الروس إدانة “حماس” في الأيام التي أعقبت السابع من أكتوبر 2023، بل إن بوتين وفي الـ 13 من أكتوبر 2023 قارن بين الجيش الإسرائيلي والنازيين، قائلاً للصحافيين إن خطط إسرائيل في غزة “تشبه حصار لينينغراد خلال الحرب الوطنية العظمى” [وهو الاسم الذي يشير به الروس إلى الحرب العالمية الثانية].
جاء الرد الإسرائيلي على هجوم السابع من أكتوبر 2023 بمثابة ضربة قاصمة لشبكة الحلفاء غير الحكوميين لإيران، فإضافة إلى استهداف “حماس” في غزة فرضت إسرائيل حصاراً برياً وجوياً فعالاً بحلول نهاية عام 2023 قطع تحركات القوات الإيرانية وسلاسل إمداداتها اللوجستية إلى سوريا لدعم “حزب الله”، وأسفرت الحملة عن مقتل 16 قائداً بارزاً في “حزب الله” بمن فيهم أمينه العام حسن نصرالله، وقضت على وجود التنظيم في جنوب لبنان ومعاقله في سوريا، وعلى رغم سياستها الطويلة الأمد المتمثلة في تجنب المواجهة المباشرة مع إسرائيل فقد شنت إيران في أبريل (نيسان) وأكتوبر 2024 هجومين منفصلين بالصواريخ والطائرات المسيرة ضد إسرائيل، وكان للرد الإسرائيلي في أكتوبر 2024 الذي استهدف مواقع تصنيع الصواريخ ومواقع الدفاع الجوي في جميع أنحاء البلاد عواقب بعيدة المدى، فدمر الهجوم أربعة نظم صواريخ من طراز “إس-300” روسية الصنع وأنظمة دفاع جوي إيرانية، مما شل قدرة إيران على الدفاع عن نفسها من الضربات المستقبلية.
في البداية استفادت روسيا من التصعيد الفوري الذي أعقب السابع من أكتوبر، إذ أدى إلى تحويل انتباه الغرب وموارده بعيداً من أوكرانيا باتجاه الشرق الأوسط، ولكن في نهاية المطاف عانت موسكو تبعات انتكاسات إيران في المنطقة، فبعد عقد من المساعدة العسكرية الروسية الناجحة انهار نظام الأسد فجأة في ديسمبر (كانون الأول) 2024، وخلافاً لعام 2016 عندما نجحت القوات البرية الإيرانية والدعم الجوي الروسي في صد قوات المتمردين أثناء حصار حلب، لم يتمكن أي من الطرفين الراعيين للنظام السوري من شن هجوم مضاد سريع هذه المرة، فقد تضررت القوات المدعومة من إيران بشدة بسبب الضربات الإسرائيلية، وكان سلاح الجو الإسرائيلي جاهزاً ومتمركزاً لمنع المحاولات الإيرانية من الوصول إلى دمشق، وبطريقة موازية كانت روسيا مشغولة للغاية بخوض الحرب في أوكرانيا فلم تستطع الدفاع عن الأسد.
مدى الترابط العميق بين الحربين في أوكرانيا والشرق الأوسط تجلى عندما وسعت أوكرانيا معركتها ضد النفوذ الروسي إلى سوريا نفسها، فقد أرسلت كييف نحو 20 مشغلاً للطائرات المسيرة من ذوي الخبرة و150 طائرة مسيرة تعمل بنظام الرؤية الشخصية “أف بي في” FPV [وهي عبارة عن مسيرات يشغلها الطيارون وهم موجودون على الأرض ويناورون بها من بعد أثناء مراقبة البث المباشر من كاميرا مثبتة على متن الطائرة] إلى مقر الفصائل المعارضة في إدلب لدعم “هيئة تحرير الشام”.
وفي مواجهة الهزيمة الحتمية رتبت موسكو عملية إجلاء سريعة ولكن مخططة بعناية للأسد من دمشق، وروجت وسائل الإعلام الروسية الرسمية لتقارير نشرتها الصحافة التركية تفيد بأن الأسد قدم في مقابل ضمان مرور آمن قائمة شاملة بالأصول الإستراتيجية السورية التي استهدفتها إسرائيل في وقت لاحق، لكن هذه الإجراءات التي تهدف للحفاظ على ماء الوجه لم تستطع إخفاء الانهيار الأساس لمكانة روسيا وإيران في سوريا.
وفي مواجهة هذه الانتكاسات سارعت إيران إلى توسيع برنامجها النووي بوتيرة غير مسبوقة، بينما تحولت روسيا التي لم تعد قادرة على موازنة التزاماتها الدبلوماسية بين خصمين إقليميين إلى شريكها الرئيس الجديد، فقد خسر البلدان سوريا، لكن مع سقوط دمشق كسبتا بعضهما بعضاً.
إيران نحو الخيار النووي
مع إضعاف شركاء إيران وقدراتها التقليدية وتحدي “إستراتيجية الدفاع المتقدم” الخاصة بها، بدأت طهران تعيد النظر في خيارها النووي، وفي الوقت الحالي يُفترض أن إيران دولة على العتبة النووية [دولة على عتبة صناعة سلاح نووي] وتمتلك العناصر الأساس للأسلحة النووية بما في ذلك تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم والخبرة الفنية وأنظمة الإطلاق والمنشآت، لكنها لم تقرر بعد التسلح نووياً، وفي الواقع تتطلب عملية التسلح الكامل إجراءات معقدة تنطوي على أخطار عالية للاكتشاف، إما من مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية أو وكالات الاستخبارات الغربية، إضافة إلى خطر التعرض لضربات استباقية من إسرائيل أو الولايات المتحدة، وبدأ المسؤولون الإيرانيون يلمحون إلى تغييرات محتملة في موقف إيران النووي الذي يرفض رسمياً تطوير الأسلحة النووية، في حين بدأت بعض الشخصيات المتشددة تدعو بصورة علنية إلى امتلاك أسلحة نووية. وفي أبريل 2024 أعلن قائد هيئة حماية وأمن المنشآت النووية العميد أحمد حق طلب أنه إذا شنت إسرائيل هجوماً على إحدى المنشآت النووية الإيرانية فإن النظام قد “يعيد النظر” في عقيدته النووية. وحذر المسؤول السابق كمال خرازي من أنه “إذا تجرأت إسرائيل على تدمير منشآت إيران النووية فإن مستوى ردعنا سيكون مختلفاً”، مضيفاً “ليس لدينا قرار بإنتاج قنبلة نووية، ولكن إذا تعرض وجود إيران للتهديد فسنضطر إلى تغيير عقيدتنا النووية.”
ويزيد الدعم الروسي من تعقيد الحسابات النووية الإيرانية، فقد شهد موقف موسكو تحولاً جذرياً، فبعد أن كانت داعماً سابقاً لعقوبات مجلس الأمن الدولي على البرنامج النووي الإيراني ومهندساً رئيساً للاتفاق النووي مع إيران، أصبحت روسيا تنظر إلى إيران باعتبارها حليفاً وشريكاً حاسماً لإبراز قوتها في منطقتها وخارجها، ولم يعد الدعم العسكري الإيراني في أوكرانيا مجرد عنصر ضروري في جهود موسكو الحربية وحسب، بل إنه دفع روسيا أيضاً إلى ربط البرنامج النووي الإيراني بالتوترات الأوسع نطاقاً مع الغرب، وفي الواقع تستغل روسيا مخاوف الغرب من التهديد النووي الإيراني لإثارة التوترات وتحويل التركيز بعيداً من أوكرانيا.
وعلى رغم أن طبيعة المساعدة الروسية لإيران لا تزال غير معروفة على وجه الدقة لكن المسؤولين الأميركيين والإسرائيليين يتتبعون تطور هذه الشراكة بقلق متزايد، ففي يوليو 2023 سلط مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ويليام بيرنز الضوء على التعاون الروسي في برنامج مركبات الإطلاق الفضائي الإيرانية، مشيراً إلى وجود فنيين روس “يعملون على برنامج مركبات الإطلاق الفضائي في إيران وعلى جوانب أخرى من برامج الصواريخ الخاصة بها”، والأهم من ذلك أن مثل هذه المساعدة قابلة للتطبيق بصورة مباشرة على تطوير الصواريخ الباليستية العابرة للقارات.
إيران تعيد النظر في خيارها النووي
في سبتمبر (أيلول) 2024 كشفت الاستخبارات الأميركية عن أن روسيا وسّعت تعاونها النووي مع إيران في مقابل الحصول على صواريخ باليستية قصيرة المدى لاستخدامها في أوكرانيا، كما أعرب مسؤولون وخبراء إسرائيليون عن مخاوفهم من أن روسيا قد تساعد إيران في مجال تكنولوجيا التسلح، خصوصاً بعد التصريح الاستفزازي لنائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف الذي قال “من المفيد النظر في إمكان نقل تقنياتنا النووية إلى أحد أعداء الولايات المتحدة”.
إن المساعدة الروسية قد تتراوح من تصنيع الوقود إلى مجالات أكثر حساسية مثل الصناعات التعدينية وتصميم الأسلحة، وربما سمح تعاون موسكو مع إيران في مجال مركبات الإطلاق الفضائي للدولتين بتبادل تكنولوجيا الصواريخ المهمة، بما في ذلك محركات الصواريخ المتقدمة العاملة بالوقود السائل، التي يمكن إعادة استخدامها في الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والأمر الأكثر إثارة للقلق هو احتمال مساعدة روسيا لإيران في تحسين تصاميم أسلحتها النووية وتطوير رؤوس حربية مصغرة قابلة للتركيب على أنظمة إطلاق الصواريخ.
وعلى المدى القريب يبدو أن إيران مهتمة بصورة أكبر بالحصول على الدعم الروسي لإعادة بناء دفاعاتها الجوية في سبيل حماية منشآتها النووي لكن خططها تتجاوز مجرد استعادة قدراتها الدفاعية، فقد زار الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان موسكو قبل أيام من تنصيب دونالد ترمب لتوقيع معاهدة شراكة إستراتيجية طال انتظارها مع روسيا تعمل على تعميق التعاون الثنائي، ولم يكن هذا التوقيت صدفة، إذ تسعى إيران إلى تحصين نفسها ضد وعود إدارة أميركية جديدة بممارسة الضغط الأقصى من خلال تعزيز العلاقات مع روسيا.
تجنب المجازفة القصوى
تواجه إسرائيل والولايات المتحدة حسابات معقدة حول في كيفية التعامل مع إيران التي أصبحت أضعف ولكن المتجهة نحو امتلاك سلاح نووي، فبالنسبة إلى المسؤولين الإسرائيليين هناك نافذة عملياتية مفتوحة حالياً لمهاجمة إيران بسبب تدهور دفاعاتها الجوية، ومع ذلك فإن أية مساعدة محتملة من موسكو لإيران في إعادة بناء وتحديث دفاعاتها الجوية ستغلق هذه النافذة، ولا سيما إذا نجحت روسيا في تزويد إيران بأنظمة الدفاع الجوي الأكثر تطوراً والطائرات المقاتلة المتقدمة التي تسعى إلى الحصول عليها.
وعلى رغم أن حملة “الضغط الأقصى” التي طرحتها إدارة ترمب قد تؤدي إلى دعوات لاتخاذ إجراء عسكري يترافق مع تقييد طهران اقتصادياً، فإن حملة إسرائيلية أو حملة أميركية إسرائيلية مشتركة قد تعزز إصرار إيران على المضي قدماً في برنامجها النووي وتعمق الدعم الروسي لها، ونظراً إلى عدم اليقين في شأن نجاح الخيار العسكري فإن نهجاً دبلوماسياً يجمع بين الضغط المحسوب والحوار قد يكون أكثر جدوى.
ويتعين على صناع السياسات في الولايات المتحدة أن يجدوا توازناً دقيقاً من خلال ممارسة الضغوط بحذر على كل من موسكو وطهران من دون أن يسهم ذلك في تعميق الشراكة القائمة، ويُظهر اتفاق الشراكة الإستراتيجية الأخير بين البلدين حدود التعاون الحالي، إذ إنها لا تصل إلى مستوى اتفاق دفاع مشترك، وعلاوة على ذلك فإن الحاجات العسكرية الروسية في أوكرانيا تحد من الصادرات العسكرية التي يمكن لموسكو إرسالها إلى إيران، وهذا يعني أن الولايات المتحدة لا تزال تمتلك مجالاً للمناورة بهدف الحد من أي مساعدة نووية روسية لإيران، لكن السياسات التي انتهجتها إدارة ترمب الأولى، بما في ذلك حملة الضغط الأقصى والعقوبات التي تستهدف قطاع الدفاع الروسي، أدت في الواقع إلى تسريع تعاونهما من خلال خلق مظالم مشتركة وعدو مشترك، وهذه المرة تواجه الإدارة ديناميكية أكثر تحدياً فمن المستحيل التوصل إلى صفقة أفضل من “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وقد أصبح البرنامج النووي الإيراني أكثر تقدماً مما كان عليه عام 2015 مما يمنح إيران نفوذاً أكبر في المفاوضات النووية على رغم موقعها الجيوسياسي الذي أصبح أضعف، كما أن شراكتها مع روسيا ستساعدها في تجنب أسوأ العقوبات، وقرار إدارة ترمب الأولى بالانسحاب من “خطة العمل الشاملة المشتركة” قد يدفع طهران إلى الاعتقاد بصورة منطقية أن الولايات المتحدة لن تقدم أي تخفيف للعقوبات.
دق إسفين بين روسيا وإيران سوف يكون تحدياً صعباً
عوضاً عن ذلك يجب على واشنطن أن تعتمد نهجاً تدريجياً بالتعاون مع شركائها الأوروبيين، فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، من أجل تفعيل أو التهديد بتفعيل “آلية الزناد” أو “سناب باك” المنصوص عليها في الاتفاق النووي مع إيران، مما سيعيد فرض العقوبات التي كانت مفروضة سابقاً بموجب قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قبل “خطة العمل الشاملة المشتركة”، وعلى رغم أن ترمب الذي انسحب من الاتفاق بصورة أحادية عام 2018 قد يعارض الاحتكام إلى شروط الاتفاق، فقد ألمح مسؤولون في إدارته، بمن في ذلك وزير الخارجية ماركو روبيو، إلى دعمه فرض عقوبات آلية “سناب باك”، وقد تكون هذه الخطوة عنصراً حاسماً لإعادة إيران لطاولة المفاوضات.
وانتهاء صلاحية آلية “سناب باك” في أكتوبر (تشرين الأول) 2025 يمنح الولايات المتحدة إطاراً زمنياً لإعادة تنشيط المشاركة الدبلوماسية وربما تمديد شروط الاتفاق أو تعديلها، وعلى رغم أن الولايات المتحدة لم تعد طرفاً في الاتفاق النووي، فإنه يتعين على واشنطن تنسيق حملة ضغط متعددة الأطراف متسلسلة بعناية، مستفيدة من قدرة فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة على إعادة فرض العقوبات السابقة لعام 2015 تلقائياً، وهي عملية لا يمكن لروسيا أو الصين نقضها، ومع ذلك فإن فرض هذه العقوبات لا يخلو من الأخطار فقد حذرت طهران من أنها قد ترد بالانسحاب من “معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية” (NPT)، مما قد يزيد حدة التوترات وربما يؤدي إلى تحفيز ضربات عسكرية ضد منشآتها النووية، وإعادة توجيه الجهود الدبلوماسية للولايات المتحدة وحلفائها نحو محاولة منع انسحاب إيران الكامل من المعاهدة.
وخلافاً لإدارة بايدن يجب على إدارة ترمب أن تشارك طهران في مفاوضات مباشرة، ومع الأخذ في الاعتبار أن أي اتفاق محتمل لن يكون بحجم “خطة العمل الشاملة المشتركة”، ينبغي على الإدارة أن تحاول التوصل إلى اتفاق مصغر وقابل للتنفيذ بسرعة يهدف إلى تهدئة التوترات وتهيئة المجال لاتفاق أوسع في المستقبل.
كما ينبغي أن تشجع الولايات المتحدة أيضاً إسرائيل بصورة فعالة على زيادة دعمها لأوكرانيا، بخاصة وأن نفوذ روسيا في سوريا قد تقلص، ففي الماضي كانت إسرائيل حذرة في دعمها لأوكرانيا فقدمت لكييف رادارات الإنذار الباكر ومساعدات إنسانية، لكنها تجنبت التعاون الأعمق خشية تحركات انتقامية ضد اليهود الروس وإنهاء قنوات التنسيق مع روسيا في سوريا، ولكن بعد الإطاحة بالأسد والانسحاب الروسي الكبير من سوريا فقد تعيد إسرائيل النظر في موقفها، ويمكن أن تشمل الإجراءات المحتملة تزويد أوكرانيا بتقنيات داعمة مناسبة مثل وحدات الرادار المتنقلة والذخائر من المخزونات الخاصة بالأنظمة السوفياتية القديمة التي صادرتها إسرائيل من لبنان وسوريا.