هل يتسرّب فيروس مخلَّق في مختبرات متقدمة ويطلق جائحة مشابهة لكوفيد؟

3

تنخرط مختبرات علمية متقدمة في تجارب لتخليق فيروسات قوية متنوعة، ماذا لو تسربت وأطلقت جائحة مثل كوفيد؟

 بتوقيت مذهل، وصل كتاب آدم كوتشارسكي “قواعد العدوى: لماذا تنتشر الأشياء” إلى المتاجر في شباط/ فبراير 2020، تماماً حينما انخرط العالم في التعامل مع جائحة كوفيد-19.

 

وفي كتابه، يصف كوتشارسكي، أستاذ في “كلية لندن للصحة العامة والطب الاستوائي”، كيف تنتشر الأفكار، وكيف تكتسب الحركات السياسية زخماً، وكيف تتحول الفيروسات إلى أوبئة. وفي ما يلي عرض لفصل من الكتاب عن فوائد ومساوىء التجارب المخبرية والمخاطر المرتبطة مع تلك الأنواع من الاختبارات.

 

 قبل ست سنوات من بداية ظهور فيروس “سارس” SARS [يُحدِث التهابات تنفسية حادة] في هونغ كونغ، وصل طفل في الثالثة من عمره يعاني من حمى إلى “مستشفى الملكة إليزابيث” في كولون. حدث ذلك في أيار/  مايو 1997، قبل بضعة أسابيع من تسليم بريطانيا هونغ كونغ إلى الصين. وقد تبين لاحقاً أنه كان بداية لعصر بيولوجي جديد، وكذلك عصر سياسي جديد.

 

مختبرات تخليق السلالات الفيروسية

 

قبل إصابته، تمتع الطفل بصحة جيدة. ومع دخول الفيروس إلى جسمه، أخذ يعاني من سعال شديد وأعراض مشابهة للإنفلونزا. بعد دخوله المستشفى، تدهورت حالته. وفي غضون أيام، توفي. لقد أصيب الطفل بفيروس “آتش 5 إن 1” H5N1  ، وهو سلالة من الإنفلونزا اعتادت الانتشار بين الطيور بصورة حصرية. وخلال الأشهر التالية، ظهرت مزيد من الإصابات بذلك الفيروس. ومع نهاية العام، أصيب 18 شخصاً وتوفي 6 منهم، وفق ما نشره أخيراً موقع “بلومبرغ” Bloomberg.

 

ومنذ تفشي المرض للمرة الأولى، أُبلِغ  عن أكثر من 800 إصابة بشرية عالمياً، بما في ذلك عشرات من الحالات في الولايات المتحدة. ونجمت معظم الحالات عن التلامس مع الماشية والدواجن المصابة. وتشير الأدلة الجينية إلى أن فيروس H5N1 ينتشر أيضاً بين أسود البحر وحيوانات الفقمة في الأرجنتين.

 

في المقابل، ولفترة طويلة، لم يكن من الواضح مدى إمكانية انتشار سلالة “آتش 5 أن 1” بين الحيوانات الثديية. تغير ذلك في عام 2011، حينما أعلن فريقان علميان من “مركز إيراسموس الطبي” و”جامعة ويسكونسن-ماديسون”، عن نجاحهما في تخليق سلالات جديدة من فيروس H5N1. وعلى عكس السلالات المنتشرة طبيعياً التي تنتمي إلى تلك الفئة ولا تنتقل إلا عبر الاتصال المباشر، امتلكت تلك النسخ المتحورة القدرة على الانتقال عبر الهواء، وانتشرت بتلك الطريقة بين مجموعة من حيوانات المنك موجودة في أقفاص داخل المختبر.

ثمة ثلاث تغييرات حاسمة مكّنت ذلك الفيروس من الانتشار عبر الهواء. أولاً، أُعطِيَتْ الفيروسات القدرة على إصابة الجزء العلوي من الجهاز التفسي. ثانياً، زوّد الفيروس الجديد بالقدرة على العيش في درجات حرارة منخفضة. وثالثاً، اكتسبت الفيروسات طفرة جينية جعلتها أكثر استقراراً.

ومن دون شك، حسنت التجارب في المختبرات المتقدمة معرفتنا العلمية بفيروسات H5N1، لكن هل يتناسب ذلك مع المخاطر التي يحتمل أن تترتب على أعمالها؟  ماذا يحدث إذا تسرب فيروس جرى تخليقه في مختبر متطور وزُوِّد بخصائص قوية، ثم تسرب وانفلت بين البشر؟

 

الشائعات على الإنترنت

في العام 2014، استخدم عالم الأوبئة مارك ليبسيش واختصاصي الأمن البيولوجي توماس إنغليسباي، نموذجاً رقمياً مبسطاً لتقدير المخاطر التي قد تشكّلها هذه التجارب. وتبين مثلاً أن إصابة أحد العلماء بفيروس مستحدث، قد يليه أن ينقل ذلك الشخص الفيروس إلى خارج المختبر، ما يمهد لانتشاره بصورة واسعة بين الناس. 

استناداً إلى البيانات التاريخية، قدر ليبسيش وإنغليسباي أنه إذا اشتغل مختبر متقدم واحد على فيروسات عالية المخاطر لمدة سنة، فقد يترتب على ذلك تسرب فيروسي تتبعه جائحة عالمية غير مقصودة، بنسبة تتراوح بين واحد في الألف إلى واحد في العشرة آلاف. 

وحتى أكثر هذه التقديرات تشاؤماً قد تبدو صغيرة للغاية. ومع ذلك، يجب أن تؤخذ هذه الاحتمالات في الاعتبار مقابل الضرر الكبير الذي يمكن أن تسببه جائحة تشمل كوكب الأرض. ومن منظور تقييم المخاطر، تعتبر الحوادث غير المحتملة التي تؤدي إلى قدر كبير من الضرر أكثر إثارة للقلق من نظيراتها الشائعة التي تترتب عليها عواقب محدودة.

 

لقد رأينا الآن الضرر الذي يمكن أن تسببه جائحة كبيرة. وجاء ذلك متمثلاً بجائحة كوفيد-19. منذ البداية، أثار تفشي كوفيد رغبة في معرفة من هو المسؤول. ورُبط حوالي ثلثي الحالات المبكرة مع سوق المأكولات البحرية في مدينية “ووهان” الصينية. وكذلك انتشرت تكهنات بأن فيروس كوفيد- 19 قد نشأ من ثعابين، بالإضافة إلى ادعاءات بأنه كان هجيناً جزئياً من فيروس نقص المناعة البشرية، أو سلاحاً بيولوجياً أميركياً، أو نتيجة لتسرب من مختبر متقدم للفيروسات في “ووهان”.

 

إثبات الفكرة

فيما جهدت الدول في محاولة السيطرة على كوفيد، مع تفاوتات في نجاحها، استمرت النظريات حول أصول الفيروس في الانتشار. خارج الصين، اكتسبت فكرة تسرب الفيروس من المختبر شعبية في وسائل الإعلام. وداخل الصين، انتشرت تكهنات بأن الفيروس قد جاء في الأصل من طعام مجمد مستورد من الخارج.

 

في أوائل عام 2023، عثرت الباحثة فلورنس ديبار في سوق ووهان، على بعض الفيروسات التي تتمتع بتراكيب جينية غير مألوفة.  وبعد تحليل دقيق، تبيّن أنها تعود إلى فيروسات تعيش في الحياة البرية المجاورة لتلك المدينة، مع إمكانية انتقالها إلى أسواقها عبر حيوانات أصيبت بها. ولم يثبت أن “كوفيد- 19” جاء عبر ذلك المسار.

ولكن حتى لو كان كوفيد قد نشأ من طريق الصدفة في الحياة البرية المجاورة لسوق ووهان، فلا يعني ذلك أن التهديد المقبل سيأتي عبر تلك الطريقة. وهناك  

المخاطر والتحديات

نتيجة للجدال حول دراسات “آتش 5 أن 1” في العام 2011، أوقفت “المعاهد الوطنية (الأميركية) للصحة” الأميركية في العام 2014 تمويل التجارب العلمية التي تتضمن إضافة مواصفات وخصائص جديدة تعطي الفيروسات قدرة على الانتشار خارج الأطر الطبيعية، على غرار ما جرى في التجارب التي سبقت ظهور “آتش 5 آن 1”. وفي وقت سابق من 2014، ظهرت تقارير موثوقة عن فيروسات خطيرة في مختبرات الحكومة الأميركية، جرى تصنيفها خطأً بأنها مأمونة، مما قد يعرض العاملين في تلك المختبرات للخطر.

 

وقد لاحظ مجلس الاستشارات التابع لـ”المعاهد الوطنية للصحة”  الذي أشرف على دراستين عن انتشار فيروس H5N1، أن “البيولوجيا وصلت إلى مفترق طرق. ويتوجب تحديد الاتجاه الذي سنسير فه، وكذلك العملية التي نصل بها إلى هذا القرار كمجتمع. ويجب ألا يترك ذلك لمجموعات صغيرة من الحكومة أو المجتمع العلمي أو المجتمع”.

 

استمر تعليق التمويل الحكومي الأميركي حتى أواخر عام 2017، حينما أعلنت “المعاهد الوطنية للصحة” أنها ستنظر في تمويل دراسات تتضمن إضافة وظائف وقدرات جديدة للجراثيم التي “قد تسبب جائحات”.  

منذ ذلك الحين، وبسبب جائحة كوفيد، أصبح الوعي العام بشأن أبحاث إدخال وظائف جديدة على مسببات الأمراض، أكبر بكثير مما كان عليه في عام 2017. وهذا الأمر يمثل جانباً إيجابياً وتحدياً في الوقت نفسه.

يتمثل الوجه الإيجابي بزيادات النقاشات العامة حول تلك التجارب ومختبراتها، فيما يبرز الوجه السلبي من إمكانية ضياع التفاصيل العلمية الدقيقة المتعلقة بجراثيم خطيرة، في بحور التدفق الإعلامي غير المُدقِقْ.

التعليقات معطلة.