بعد أن حققنا انتصارات تاريخية ضد «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)»، حان الوقت لكي يعود شبابنا العظيم إلى أوطانهم
بهذه الجملة عنون الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تغريدته التي ساق فيها لجماهيره «بشرى» سحب قوات بلاده من سوريا، معللًا ذلك بأن تلك القوات قد حققت أهدافها بالفعل نجحت في هزيمة (داعش): «لقد انتصرنا، حان وقت العودة للوطن».
القرار الذي جاء مفاجئًا، وبلا مقدمات تقريبًا، أثار الارتباك في عواصم العالم، وفي مراكز صنع القرار، بما فيها واشنطن نفسها، بقدر ما أثار اعتراضات بين حلفاء الولايات المتحدة، وفتح الباب أمام احتمالات تغير خريطة النفوذ في الشمال السوري، وهو ما نتعرض له خلال السطور التالية.
كيف غرست واشنطن أقدامها في «وحل» الحرب السورية؟
بحسب مصادر وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، يبلغ عديد القوات الأمريكية المرابضة في الأراضي السورية نحو ألفي عنصر، تنتشر في مناطق متفرقة على امتداد مئات الأميال سيما في المناطق الشمالية، وقد بدأ تدفق هذه القوات في نهايات العام 2015 كمجموعة من قوات العمليات الخاصة التي كان الهدف منها تعميق التحالف مع الميليشيات المحلية التي تقاتل «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)»، وبخاصة القوات الكردية التي حملت اسم «قوات سوريا الديمقراطية (قسد)».
لكن سرعان ما تشعب هذا الوجود العسكري من مجرد قوات «كوماندوز» صغيرة العدد، إلى حضور عسكري أوسع شمل قوات تقليدية أنيطت بها مهمات حماية بعض المواقع في الريف، ومهندسين لأجل القواعد والإنشاءات، فضلًاَ عن الطيارين لأجل الطلعات الجوية، والمدربين الذين يدربون عناصر (قسد).
خريطة تظهر بعض مناطق التواجد العسكري الأمريكي على الأرض السورية- المصدر «نيويورك تايمز» أبريل (نيسان) 2018
وقد جاء قرار إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما بإرسال قوات عسكرية أمريكية إلى الأرض السورية، بعد فترة من العزوف الأمريكي، عن التورط مباشرة في النزاع، تطبيقًا لاستراتيجية أوباما التي كانت تهدف إلى تجنيب واشنطن الانخراط المباشر في أزمات الشرق الأوسط، قبل أن تحسم الإدارة قرارها بإرسال قوات في سبيل «اعتصار قدرات (داعش) وتدميرها بما يتطلبه ذلك من مساهمات عسكرية (على الأرض)» كما وصف أوباما في أحد حواراته الصحافية.
وكما ذكرنا، فقد كان هدف تلك القوات في البداية هو ضمان أن العناصر المحلية التي تقاتل تنظيم للدولة تتمتع بالتدريب والعتاد الكافي لهزيمته، فضلًا عن تنسيق جهود سلاح الجو التابع للتحالف، قبل أن تتوسع مهام القوات الأمريكية واختصاصاتها بما يشمل تأسيس أنظمة لوجستية وإنشاءات تضمن فعالية القتال ضد التنظيم.
ووفقًا لما أوردته «وكالة الإعلام الروسية» في مارس (آذار) الماضي، فإن واشنطن أقامت في المناطق الخاضعة لسيطرة الأكراد في سوريا نحو 20 قاعدة عسكرية، ينتشر أغلبها في المنطقة الممتدة من «المبروكة» شمال غرب الحسكة إلى «التايهة» جنوب شرق منبج، وقد أجملت مندوبة واشنطن لدى الأمم المتحدة نيكي هيلي الغرض من وجود هذه القوات بثلاثة أهداف لن تعود إلا بعد التيقن من إنجازها، وهي هزيمة (داعش)، وضمان عدم استخدام أسلحة كيماوية، وضمان وجود نقطة مراقبة لأنشطة إيران في المنطقة.
«نيويورك تايمز»: خروج أمريكا من سوريا سيطيل الحرب! تعرف إلى السيناريو المحتمل
الداخل يتذمر.. وإسرائيل مستاءة
بحسب ما نشرته تقارير صحافية، فقد جاءت خطوة ترامب بسحب القوات الأمريكية من سوريا بقرار شخصي تمامًا، وبغير أن تتمتع بدعم مستشاريه العسكريين، – فضلًا عن أعضاء الكونغرس البارزين – حيث يخشى العديد من القادة العسكريين أن يقوض الفراغ الناجم عن سحب القوات المكاسب التي حققها التحالف ضد تنظيم الدولة، في تكرار لما حدث عندما سحبت إدارة أوباما القوات من العراق عام 2011.
وبحسب تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز»، فإن قرار ترامب قد ووجه باعتراض شديد من قبل كل من الجنرال جوزيف فوتيل، قائد القيادة المركزية الأمريكية، والجنرال بريت ماكغورك، مبعوث الولايات المتحدة للتحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة، ويرى الرجلان أن من شأن خطوة سحب القوات الأمريكية أن تجعل القوات الكردية مستباحة أمام أي هجوم تركي وشيك، علمًا بأن الأكراد كانوا رأس الحربة في طرد (داعش) في الكثير من المناطق، ودفعوا في معاركهم ضد التنظيم أثمانًا باهظة، كما أن تلك الخطوة تعضد من نفوذ الأسد الذي طالما نادت واشنطن برحيله في سنوات الانتفاضة الأولى.
وتشير الصحيفة إلى تصريح الجنرال ماكغورك الأسبوع الماضي، والتي وصف فيها هدف المهمة في سوريا بأنه «الهزيمة الدائمة» لتنظيم الدولة، وأضاف: «نعلم جميعًا أنه لا ينبغي أن نحزم أمتعتنا ونغادر بمجرد أن نطردهم من مناطق سيطرتهم.. نريد أن نبقى على الأرض لضمان الاستقرار في تلك المناطق».
قوات أمريكية في منبج السورية
قرار ترامب لم يعارض فقط تصريحات ماكغورك، بل تناقض كذلك مع تعهد مستشاره للأمن القومي جون بولتون قبل شهرين حين أكد أن الولايات المتحدة لن تسحب قواتها من سوريا طالما احتفظت طهران بنفوذها أو ميليشياتها هناك، كما تتعارض مع تصريح وزير الدفاع جيمس ماتيس قبل أيام فقط حين قال إن واشنطن تسعى إلى إنشاء نقاط مراقبة عسكرية على طول الحدود الشمالية لسوريا «بهدف تخفيف التوترات بين تركيا والأكراد»، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أن قرار الرئيس الأمريكي جاء مفاجئًا وعلى عكس التيار الرئيس في وزارة الدفاع أو مستشارية الأمن القومي أو غيرها من مراكز صنع القرار.
لم تحظ الخطوة كذلك على ما يبدو، بشعبية لدى أعضاء الكونغرس، إذ وجه بعض من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي رسالة إلى ترامب يحثونه فيها على مراجعة قراره «حفاظًا على المصالح الاستراتيجية الأمريكية»، معتبرين أن تنظيم الدولة لم يُهزم بشكل كامل، وأن من شأن هذا القرار أن يُفسح له مجالًا للعودة إلى الساحة من جديد، وكان من أبرز معارضي القرار داخل الكونغرس السيناتور ليندسي جراهام، عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الجمهوري.
هذا هو بطبيعة الحال قرار أمريكي، سندرس الجدول الزمني لهذا القرار وأسلوب تطبيقه وبطبيعة الحال سندرس أيضًا التداعيات بالنسبة لنا، وفي أي حال من الأحوال سنعمل على صون أمن إسرائيل وسندافع عن أنفسنا في هذا الساحة * أول تعليق لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على قرار ترامب
بطبيعة الحال، فقد ألقى القرار الأمريكي بظلاله على ساسة تل أبيب؛ إذ ظهر الاستياء الإسرائيلي من الخطوة التي اعتبرها أحد زعماء المعارضة الإسرائيلية (يائير لبيد) «استسلامًا أمريكيًا، وفشلاً لسياسات نتنياهو الخارجية، فهو يمهد الطريق أمام المزيد من التوسع الإيراني، ويقوض قدرة إسرائيل على التفاوض مع الروس»، بحسب قوله.
كما انتقد رئيس الوزراء ووزير الدفاع الإسرائيلي السابق إيهود باراك الخطوة، وانتقد «الثقة المفرطة» لنتنياهو في كل من الرئيسين الأمريكي والروسي، وبحسب قوله فإن «الإيرانيين يحتفلون» في الوقت الذي تغادر في القوات الأمريكية الأراضي السورية.
لندسي جراهام.. الجمهوري الذي يسعى لإطاحة ابن سلمان ويشكل «صداعًا في رأس ترامب»
الروس يرحبون.. والأتراك يرتدون لباس الحرب
في الوقت الذي قوبل فيه قرار ترامب بمعارضة داخلية، وترقب من قبل الأطراف الأخرى في التحالف الدولي للحرب على (داعش)، واستياء من قبل الحليف الأهم للولايات المتحدة إسرائيل، لم يخف معسكر النظام السوري، وداعميه الأهم من الروس، ارتياحهم من الخطوة التي – برأي المراقبين – ستنعكس إيجابًا على نفوذ الأسد وحلفائه.
فقد أعربت وزارة الخارجية الروسية عن قناعتها أن هذا القرار «سيؤثر إيجابا على تشكيل اللجنة الدستورية السورية، وإيجابًا أيضًا على الوضع في منطقة التنف الحدودية. بين سوريا والأردن»، كما رأت موسكو أن الخطوة «سيفتح آفاقا للتسوية السياسية في البلاد»، في الوقت الذي أظهر فيه مسؤولون في النظام السوري سعادتهم بالقرار الذي يثبت أن «مشروع تقسيم المنطقة قد أُسقط في سوريا» بحسب تعبير برلماني نظامي سوري.
وفي محاولة لقراءة آثار ذلك الانسحاب على توازنات القوى في المنطقة، نذكر هنا بعضًا مما أورده تحليل أوردته وكالة «بلومبرج» في أبريل (نيسان) الماضي، والذي رأى أن تنفيذ ترامب لتهديده بسحب كامل قواته من سوريا من شأنه أن «يسمح بإنشاء هيكلية أمنية تطغى عليها روسيا في المنطقة وبتسريع هيمنة إيران. ومع أنّ الهيمنة الإيرانية ستكون غير مقبولة في أرجاء المنطقة، تبقى دول أخرى في الشرق الأوسط ضعيفة جدًا لتواجه إيران بفعالية من دون دعم وقيادة أمريكيَّين».
ووفقًا لـ«بلومبرج»، «ففي حال تركت الولايات المتحدة حلفاءها يقاتلون بدون دعم، فسيتمكّنون – في أفضل الحالات – من إدامة الحرب بالوكالة، لكنّهم لن يشكّلوا سوى صداعٍ لا أكثر لإيران وروسيا. ولن يتمكّنوا من تغيير ميزان القوى أو إحداث أيّ تغيير على الأرض. باختصار، سيشكّل هذا طريقة لإبقاء سوريا غارقة في حالة حرب مستمرّة».
جنازة تركية لقتيل سقط في عفرين السورية
أما الطرف الآخر الذي يبدو مستفيدًا من تلك الخطوة، فهي تركيا التي سارع مسؤولوها إلى الترحيب مسؤولوها بتلك الخطوة التي جاءت بعد ساعات قليلة من مكالمة جمعت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالرئيس ترامب (فيما جعل خطوة ترامب تبدو وكأنها جاءت بتنسيق مع أنقرة أو ترضيةً لتركيا بعد فترة من توتر العلاقات بين البلدين على خلفية الدعم الأمريكي للمسلحين الأتراك).
ويعتبر مراقبون أن تلك الخطوة تمثل تخليًا خطيرًا من جانب الولايات المتحدة عن حليف مهم لطالما وقف إلى جوار واشنطن في الحرب ضد تنظيم الدولة، وهم الأكراد السوريون، الذين باتوا يواجهون تهديدًا تركيًا وشيكًا، خاصة بعدما أعلن الرئيس التركي قبل أيام أن بلاده ستشن «خلال أيام» عملية عسكرية بهدف تطهير منطقة شرق الفرات من «الإرهابيين الانفصاليين»، في إشارة إلى مقاتلي الحزب الديمقراطي الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية.
نحن نرحب بخبر الخطوات الوشيكة لإدارة ترامب في سوريا. ويتماشى هذا القرار مع الإطار الذي خرج من مكالمة الرئيسين أردوغان وترامب * مسؤول تركي رفيع لـ(CNN) مرحبًا بخطوة ترامب
وكما هو متوقع، فلم تكد تمر ساعات على الإعلان الأمريكي، حتى بدأت طبول الحرب تدق من جديد، فقد تحدثت وكالة «الأناضول» الرسمية التركية عن تعزيزات عسكرية تركية على الحدود السورية، ضمت مركبات عسكرية وناقلات جند مدرعة، في الوقت الذي تحدث فيه وزير الدفاع التركي خلوصي أكار بلهجة حاسمة، ضد المقاتلين الأكراد مهددًا بأنهم «سيدفنون في الخنادق التي يحفرونها حين يحين الوقت المناسب».
وسط غضب تركي.. لماذا توجهت السعودية نحو الدعم السخي للأكراد السوريين؟