هل يفكّر ماكرون فعلاً بإرسال قوّات برّيّة إلى أوكرانيا؟

1

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعقد مؤتمراً صحافياً في الإليزيه (أ ب)

“نحن مقتنعون بأنّ هزيمة روسيا ضروريّة للأمن والاستقرار في أوروبا”. نادرة هي المرّات التي يتحدّث فيها أيّ زعيم غربيّ عن ضرورة إلحاق “الهزيمة” بروسيا فوق الميدان الأوكرانيّ حتى لو كان داعماً لكييف. أن يأتي هذا التصريح على لسان الرئيس الفرنسيّ إيمانويل ماكرون، أحد أكثر القادة الأوروبّيّين الذين كانوا مقتنعين بضرورة إشراك روسيا في هندسة أمنية جديدة لأوروبا، أمر مثير للاهتمام. لقد أعرب ماكرون عن هذه القناعة حتى بعد الغزو الروسيّ لأوكرانيا.

لكنّ الأكثر إثارة للانتباه هو عدم استبعاد ماكرون إرسال قوّة عسكريّة برّيّة إلى أوكرانيا. بالرغم من اعترافه بعدم وجود إجماع بشأن إرسال قوّات غربيّة إلى أوكرانيا، قال ماكرون إنّه “ينبغي عدم استبعاد أيّ شيء. سنفعل كلّ ما يلزم لضمان عدم تمكّن روسيا من الفوز في هذه الحرب”. أتى كلام ماكرون ليل الاثنين خلال مؤتمر دوليّ خاصّ لدعم أوكرانيا عُقد في باريس.

لماذا هذه الانعطافة الكبيرة؟

لفترة طويلة تلت الغزو الروسيّ الواسع النطاق لأوكرانيا، خُيّل للأوروبّيّين أنّ روسيا لا تستطيع التقدّم طويلاً على الأرض. لقد عانى جيشها من سوء كبير في التنسيق وفرض الهيمنة الجوّيّة ونقل الإمدادات. لكنّ فشل الهجوم الأوكرانيّ المضادّ والاستعداد الروسيّ لإرسال “موجات” لا تنتهي من الجنود حتى بدون تدريب كافٍ أعادا خلط الحسابات. والسيطرة الأخيرة على أفديفكا كانت جرس إنذار صاخباً. ليس أمراً عرضيّاً أن يكون الأوروبّيّون قد بدأوا يكرّرون تحذيراتهم بشأن غزو روسيّ مستقبليّ لدولة أوروبّيّة منذ أواخر سنة 2023. وغالبيّة هذه التحذيرات تضع هذه الفرضيّة قبل نهاية العقد الحاليّ. إذاً، بات الخطر على الأمن الأوروبّيّ ملحّاً. لكن بما أنّ جميع الأوروبّيّين يتعاملون مع الآفاق القاتمة نفسها، يستدعي ذلك سؤالاً عن سبب انفراد ماكرون باقتراح إمكانيّة إرسال قوّات برّيّة إلى أوكرانيا من دون أيّ شريك أوروبّيّ آخر. الإجابة قد تكمن في قارّة أخرى.

مع ارتفاع احتمالات عودة الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ومع قوله في حديث إعلاميّ إنّه “سيشجّع” الروس على فعل “ما يريدون” بحقّ الدولة التي لا تدفع مستحقّاتها الماليّة الدفاعيّة، تختفي أيّ إمكانيّة للرضا عن النفس. وخدم كلام ترامب رؤية ماكرون الطويلة الأمد بشأن “استقلاليّة استراتيجيّة” لأوروبا. لقد كان الضوء الأخضر الذي منحه ترامب بالذات للقوّات التركيّة كي تغزو شمال سوريا سنة 2019 العامل الذي دفع ماكرون إلى إطلاق تصريحه الشهير بشأن “الموت السريريّ” للناتو. الآن، يؤكّد ماكرون للأوروبّيّين بشكل غير مباشر لكن صادم أنّه كان على حقّ. على أيّ حال، هو كرّر فكرته الاثنين حين سأل: “أيجب أن نفوّض مستقبلنا للناخب الأميركيّ. جوابي هو لا”.

هل يعني ماكرون ما يقول؟

رفض الرئيس الفرنسيّ توضيح موقفه بشأن إرسال القوّات البرّيّة مشيراً إلى أهمّيّة تبنّي “الغموض الاستراتيجيّ”. وقال إنّ الموضوع “طُرح ضمن خيارات”. رفض قادة أوروبّيّون كثر، وفي مقدّمهم المستشار الألمانيّ أولاف شولتس هذا المقترح. واللافت للنظر أنّ حتى الدول المتشدّدة تقليديّاً تجاه روسيا، مثل بريطانيا وبولندا، رفضت سريعاً الفكرة. ما من شهيّة أوروبّيّة كبيرة على إرسال قوّات برّيّة إلى أوكرانيا بخاصّة أنّ القسم الأكبر منها قد لا يكون مستعدّاً نفسيّاً ولوجستيّاً لخوض شكل جديد من أشكال حرب الخنادق. لكنّ فرنسا قد تملك المؤهّلات لمثل تلك المبادرة.

بحسب تقرير في موقع “ذا لوكال“، تعدّ فرنسا من القوى القادرة على خوض حروب خارجيّة. يشير الموقع إلى تصنيف “بيزنس إنسايدر” القائم على معايير حجم القوّات والإمكانات والمهارات التقنيّة والتجهيزات والذي صنّف فرنسا في المرتبة الثانية أوروبّيّاً بعد روسيا. وبحسب تقرير “مؤسّسة راند” الأميركيّة سنة 2021، كان الجيش الفرنسيّ من “بين الأقدر” في أوروبا الغربيّة. 

مع ذلك، ذكرت مجلّة “بوليتيكو” أنّ احتمال إرسال قوّات غربيّة إلى أوكرانيا ليس صفراً الآن، لكنّه قريب للغاية منه. في نهاية المطاف، حتى مع افتراض وجود إمكانات فرنسيّة لتحرّك من هذا النوع، من غير المتوقّع أن ترسل فرنسا وحدها قوّات لمساندة الأوكرانيّين. وفي جميع الأحوال، عندما يحين موعد اتّخاذ قرار بهذا الشأن بعد إتمام الترتيبات اللوجستيّة كافّة، ربّما سيكون الوقت قد تأخّر كي تترك خطوة كهذه تأثيراً ميدانيّاً. إيصال الذخائر اليوم إلى كييف أهمّ من أيّ انتشار عسكريّ غربيّ على الأراضي الأوكرانيّة في مرحلة ما من المستقبل.

خطأ ماكرون… وحلفائه؟

أثارت تصريحات ماكرون في كثير من الأحيان ردّ فعل سلبيّاً من الحلفاء، كما حصل عندما تحدّث عن منح روسيا ضمانات أمنيّة أو عندما قال في ربيع 2023 إنّه يجب على أوروبا ألّا تشارك في نزاع حول مضيق تايوان. في حديث إلى موقع “أوبزرفر الاتّحاد الأوروبّيّ”، قال الكاتب البريطانيّ إدوارد لوكاس إنّ لماكرون “سجلّاً من عدم إمكانيّة التنبّؤ (بما سيقوله)” مضيفاً أنّه ليس متأكّداً “من مدى الجدّيّة” التي ينبغي التعامل بها مع كلامه. أمّا ضابط الاستخبارات الأميركيّ السابق روبرت باير فلفت إلى أنّ التهديد الفرنسيّ “فارغ… وبوتين يعلم أنّه خداع”.

لكن حتى لو كان التصريح الفرنسيّ مجرّد خداع، ثمّة أسئلة عن سبب مسارعة كلّ الأوروبّيّين تقريباً إلى معاكسة كلام ماكرون. فالغربيّون تنازلوا مجّاناً عن “الغموض الاستراتيجيّ” الذي أمكنه أن يمثّل رافعة لهم حتى ولو لم يكن ذلك يعني بالضرورة الموافقة على إرسال قوات برّيّة.  

على سبيل المثال، يرى المستشار في المخاطر الدوليّة وضابط الاحتياط الفرنسيّ ستيفان أودران في سلسلة تغريدات أنّ الغموض يهدف إلى تعقيد الحسابات الاستراتيجيّة لروسيا ويعرقل قدرة تحرّك العدوّ “تحت العتبة”، بما أنْ لا أحد يعلم أين هي تلك العتبة بالتحديد. وغالط أودران الغربيّين والأميركيّين تحديداً لأنّهم قالوا لروسيا منذ البداية إنّهم لن يرسلوا قوات إلى أوكرانيا الأمر الذي تحوّل بشكل غير مباشر إلى دعوة للغزو.

الآن، تبذل أوروبا ما بوسعها لزيادة إنتاجها الدفاعيّ ودعم أوكرانيا، ليس بأكبر كمّيّة ممكنة من الأسلحة وحسب بل بأسرع طريقة أيضاً. أيّ مقترح عسكريّ آخر يعني، بالتعبير الأكثر صراحة، إغضاب الناخبين الأوروبّيّين. تحت هذا الضوء، يمكن فهم أهمّ الأسباب وراء تنصّل القادة الغربيّين ممّا قاله ماكرون.

التعليقات معطلة.