“اِقبل بالانتصار”. أورد تقرير لموقع “أكسيوس” أنّ الرئيس الأميركيّ جو بايدن قال لرئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو أن يستغلّ هذا العرض. قصدَ بايدن بـ”الانتصار” قدرة إسرائيل على التصدّي بنجاح شبه مكتمل للهجوم الإيرانيّ ليل 13/14 نيسان. قال الإسرائيليّون إنّهم أسقطوا 99 في المئة من المسيّرات والصواريخ الإيرانيّة. لكن هل يقبل من لقبُه “السيّد أمن” بهذا المستوى من الانتصارات؟
لا يلبّي تطلّعاته كافّة
بالاستناد إلى نزعة نتنياهو الحربيّة، لن يكون رفضه للعرض الأميركيّ مفاجئاً. سبق أن ذكرت صحيفة “معاريف” توجّه طائرات إسرائيليّة إلى إيران للردّ بعد ساعات على انتهاء الهجوم. لكنّ مكالمة من بايدن أنهت عمليّة الردّ بحسب الصحيفة. ثمّ ذكرت “وول ستريت جورنال” توقّعات عن مسؤولين أميركيّين بأنّ إسرائيل قد تردّ في وقت قريب جدّاً. وعُقد اجتماع الاثنين للمجلس الحربيّ الإسرائيليّ حيث نقلت “سي أن أن” عمّن سمّتهم بالمسؤولين الإسرائيليّين المطّلعين قولهم إنّ المجلس مصمّم على الردّ لكنّه ناقش الطريقة والتوقيت.
في الصورة العامّة، أراد نتنياهو على الأرجح أن ينتزع من إيران أيّ قدرة على ادّعاء الانتصار. ما حصل أنّ كلا الطرفين استطاع التلويح أمام جمهوره بهذا الورقة. حرصت إيران على أن يكون ردّها متوازناً بين الحجم (الكبير) والفاعليّة (شبه المنعدمة). بالتالي، أرادت تجنّب انتقام إسرائيليّ مع الاحتفاظ بقدرتها على ادّعاء تحقيق الردع. كان الهجوم الإيرانيّ هو الأوّل الذي تتعرّض له إسرائيل من دولة كبيرة منذ نحو 30 عاماً.
بإمكان إيران القول إنّها ردّت على اغتيال إسرائيل قادة حرسها الثوريّ حين قصفت القنصليّة الإيرانيّة قبل نحو أسبوعين، من دون أن تجرؤ تل أبيب على شنّ عمليّة انتقاميّة واسعة. دخل هذا العامل حسابات نتنياهو ومجلس الحرب. نظريّاً، يكفي مشهد الصواريخ وهي تخترق أجواء القدس لإطلاق إسرائيل رداً مضاداً. لهذا السبب، أراد نتنياهو أن يكون مشهد النصر الإسرائيليّ خالياً من أيّ لبس. وكسرت إيران حاجزاً نفسياً بعدم قدرتها على استهداف إسرائيل من داخل أراضيها. أرادت تل أبيب إعادة ترميم هذا الحاجز. لكن كانت لبايدن فكرة أخرى.
على الأرجح، لم يبنِ بايدن فكرته على أساس ميدانيّ أو استراتيجيّ. هي الفكرة نفسها التي تتمسّك بها إدارته منذ فترة طويلة: الإبقاء على قنوات الاتّصال مفتوحة مع الإيرانيّين، وعدم الانجرار إلى حرب على أبواب الانتخابات الرئاسيّة. ليس معنى ذلك أنّ بايدن سيكون أكثر تحرّراً تجاه قرار كهذا في سنة غير انتخابيّة، لكنّه سيكون أكثر حذراً وانضباطاً في السنة الكبيسة هذه.
أثمانٌ غير متناسبة
يفهم نتنياهو هذه الحسابات، وربّما يقبل بها. لكنّه سيحرص على أن تدفع الإدارة الأميركيّة الثمن المناسب. في الواقع، قد يكون حتى ثمناً غير متناسب. يمكن أن يطلب من الإدارة خفض سقف انتقاداتها لكيفيّة شنّه الحرب في غزّة، والتخلّي عن خطّها الأحمر حول عدم احتلال مدينة رفح. قد يقبل الأميركيّون بهذين الطلبين، وإن بمرارة، بخاصّة أنّه سبق للديموقراطيّين أن تخلّوا عن خطّ أحمر سابق في سوريا قبل 11 عاماً.
قد يطالب أيضاً بمنح تل أبيب الضوء الأخضر، وربّما المعلومات الأمنيّة، لمواصلة استهداف شخصيّات إيرانيّة بارزة داخل إيران وخارجها. ما دامت تلك العمليّات ستبقى من دون تبنٍّ رسميّ، قد تقبل بها إدارة بايدن، ولو على مضض أيضاً. بطبيعة الحال، لن يكتفي نتنياهو بهذه الأثمان.
من المطالب الإسرائيليّة المتوقّعة في هذا الإطار، الحصول على دعم لتوغّل برّيّ في جنوب لبنان لدفع “حزب الله” إلى ما وراء نهر الليطاني. لا تزال المفاوضات جارية لإبعاد شبح حرب كهذه، وعلى أيّ حال قد لا تكون إسرائيل جاهزة لها قبل الانتهاء من غزّة، كما ذكر تقرير في آذار لصحيفة “وول ستريت جورنال“. ربّما تقدّم الإدارة تلك الضمانة على اعتبار أنّ الوقت لا يزال متاحاً أمام الدبلوماسيّة لتحقيق اختراق معيّن.
على لائحة المطالب نفسها، يبرز أيضاً السعي إلى توفير واشنطن ما يحتاج إليه الجيش الإسرائيليّ لمهاجمة البرنامج النوويّ الإيرانيّ. هو يريد قنبلة خارقة للتحصينات، خصوصاً لاستهداف منشأة فوردو للتخصيب الواقعة على عمق 80 إلى 90 متراً تحت الأرض. كما يريد الطائرات اللازمة لإعادة تزويد مقاتلاته بالوقود وهي في طريقها إلى إيران. اشترت إسرائيل أربعاً من هذه الطائرات، لكن من غير المتوقّع أن تحصل عليها قبل أواخر سنة 2025. ربّما تستطيع أميركا تسريع تسليم تلك الطائرات.
قد تتردّد إدارة بايدن في القبول بهذه المطالب. في نهاية المطاف، يتعارض قصف إيران مع نظرتها الواسعة إلى أهميّة إعادة إحياء الاتّفاق النوويّ (أو ما تبقّى منه). لكنّها بالمقابل تدرك أنّ إسرائيل لن تقصف إيران من دون ضوء أخضر أميركيّ. فهي بحاجة للدفاع عن نفسها من الردّ الإيرانيّ، كما أنّها بحاجة إلى معلومات أدقّ من الأميركيّين بشأن المنشآت النوويّة والدفاعات المحيطة بها. بإمكان الإدارة استخدام هذا التنازل للضغط على إيران من أجل العودة إلى طاولة التفاوض، لكن من الآمن القول، بالنظر إلى سياساتها طوال الأعوام الماضية، إنّها ستفضّل عدم التصعيد. كيف ستقيس الإدارة حساباتها هنا يبقى قيد التكهّن، لكن من المؤكّد أن يضغط نتنياهو عليها للدفع باتّجاه منحه كلّ ما يلزم لوجستياً لجعل إسرائيل قادرة نظرياً على استهداف البرنامج النوويّ الإيرانيّ.
النفوذ المتبادل والعقل البارد
يملك نتنياهو ما يمكّنه من انتزاع بعض التنازلات الأميركيّة. امتناع إسرائيل عن الردّ مكلف للأميركيّين وربّما يجعله رئيس الوزراء الإسرائيليّ أكثر كلفة من الردّ نفسه. وإذا كان نتنياهو يعتقد فعلاً أنّه انتصر في المواجهة الأخيرة، فلِمَ لا يحوّل هذا الانتصار إلى منصّة لتحقيق آخر أكثر حسماً؟ في تحليل نشرته “فورين أفيرز” الاثنين، لم يستبعد مدير برنامج إيران في “مجموعة الأزمات” علي واعظ أن تتّخذ إسرائيل من ضعف الإمكانات الهجوميّة الإيرانيّة ذريعة لشنّ عمليّة انتقاميّة. ولفت إلى أنّ إسرائيل ليست وكيلاً للولايات المتحدة، لذلك لا يستطيع بايدن ضمان ألّا يردّ نتنياهو على الهجوم الإيرانيّ. حتى إعادة المقاتلات الإسرائيليّة إلى قواعدها بعد طلب من بايدن ستستغلّه تل أبيب للحصول على مقابل ما.
لكنّ الرافعة التي يتمتّع بها نتنياهو ليست مطلقة. لن يمرّ هجوم إسرائيليّ مضادّ من دون أثمان على رئيس الحكومة نفسه. بعدما استعادت إسرائيل شيئاً من التعاطف الدوليّ عقب الهجوم الإيرانيّ الأخير، ستعاود خسارة ما كسبته سريعاً إذا ضربت إيران. يذكّر البعض بنصيحة نابليون الشهيرة عن ضرورة “عدم مقاطعة عدوّك إذا كان يرتكب الأخطاء”. لقد كسرت إيران هذه القاعدة حين هاجمت إسرائيل، وستعاود الأخيرة كسرها إذا هاجمت إيران. وفي مقابل وقوف أميركا إلى جانب إسرائيل عندما تصدّت للصواريخ الإيرانيّة الآتية من الشرق، قد لا تقف واشنطن بالقوة نفسها إلى جانب تل أبيب إذا تعرّضت الأخيرة لهجوم إيرانيّ جديد رداً على انتقام إسرائيليّ مستقبليّ لم يحصل على مباركة الأميركيّين.
علاوة على ذلك، ما من ضمانة بأن يقف جميع الإسرائيليّين إلى جانب نتنياهو. العضو في الحكومة الحربيّة بني غانتس قال إنّ “التحالف الاستراتيجيّ ونظام التعاون الإقليميّ الذي بنيناه… يجب تعزيزه الآن أكثر من أيّ وقت مضى… بمواجهة التهديد الإيرانيّ”. يدرك غانتس أنّ مطالب اليمين المتطرّف بالردّ لن تعزّز هذا التحالف. في الواقع، تحدّث غانتس نفسه عن أنّ إسرائيل “ستردّ بالطريقة والتوقيت المناسبين لنا”، وهو ما قد يكون إشارة محتملة إلى أنّ الانتقام قد يسلك مجدّداً مسار حرب الظلّ التي كانت قائمة سابقاً، لكن بوتيرة أشدّ.
حتى ليل الاثنين، ظلّت الإشارات متضاربة بشأن احتمال العودة إلى عقل بارد في إجراء الحسابات. رأى رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت أنّ مجرّد عدم سقوط ضحايا إسرائيليّين بسبب الهجوم ليس انتصاراً بل نجاحاً للدفاعات الإسرائيليّة. وكتب على موقع “أكس”: “أنتَ لا تربح حرباً فقط عبر اعتراض ضربات عدوك ولا تردعها أيضاً. عدوّك سيحاول بجهد أكبر وحسب بأسلحة وأساليب أكثر وأفضل”. وأضاف: “كيف تردع؟ عبر فرض ثمن مؤلم للغاية”.
مقابل هذا التصريح، نقل تقرير لموقع “واي نت” الإسرائيليّ أمس عن مسؤول بارز قوله: “نحن حريصون راهناً على وجوب الردّ. القضيّة هي كيفيّة فعل ذلك بالطريقة الأكثر فاعليّة وبشرعيّة دوليّة، وربّما يمكن أن نكسب شيئاً على مستوى التطبيع والتحالف الدوليّ ضدّ إيران”. وأضاف: “هناك حالياً ليالٍ من دون نوم في إيران وهذا ما يجب أن يكون عليه الأمر”.
معرفة ما إذا كانت تل أبيب ستخاطر بنقل تلك الليالي إلى الداخل الإسرائيليّ أو حتى إلى الداخل الأميركيّ قد لا تطول كثيراً.