اخبار سياسية

هل يقترح بوتين فعلاً التّفاوض لوقف الحرب في أوكرانيا؟

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (أ ب)

ليست المرّة الأولى التي يشير فيها إعلامٌ غربيّ، نقلاً عن مسؤولين روس، إلى هذا الخبر. في 23 كانون الأوّل (ديسمبر) 2023، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أنّ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين يرسل بهدوء إشارات إلى انفتاحه على وقف لإطلاق النار في أوكرانيا. ونقلت عن مسؤولَين روسيّين سابقين مقرّبين من الكرملين، إضافة إلى مسؤولين أميركيّين ودوليّين قول بوتين إنّه يريد تجميد النزاع على امتداد الخطوط الحاليّة. “هو حقّاً مستعدّ للتوقّف عند المواقع الحاليّة” بحسب أحد المسؤولَين الروسيّين السابقين، لكنّه “ليس مستعدّاً للانسحاب متراً واحداً”. 

يوم الخميس الماضي، نقلت شبكة “بلومبرغ” الأميركيّة عن مصدرين روسيّين قولهما إنّ بوتين منفتح على النقاش لإنهاء الحرب في روسيا. لكن ثمّة نقطة في تقرير “بلومبرغ” كانت أوضح بقليل ممّا ذكرته “نيويورك تايمز” قبل شهر. في ذلك الوقت، لفتت الصحيفة إلى أنّ قضيّة انضمام أوكرانيا المحتمل إلى حلف شمال الأطلسيّ كانت لا تزال عالقة. مع ذلك، لم تكن لتمثّل هذه القضيّة عقبة أمام الاتّفاق بما أنّه لم يكن من المتوقّع أن يضمّ الحلف أوكرانيا في المستقبل المنظور.

في “بلومبرغ”، يبدو أنّ هناك استعداداً لدى بوتين للتخلّي عن إصراره على عدم قبول أوكرانيا في الحلف. ليس واضحاً ما إذا كان سبب ذلك هو الرفض المتوقّع من بعض الدول الأطلسيّة كالمجر أو سلوفاكيا فكرة استقبالها في الناتو. قال الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف إنّ “الرئيس بوتين أعلن مرّات عدّة أنّ روسيا، منفتحة وستواصل انفتاحها على التفاوض مع أوكرانيا” مضيفاً “أنّنا مصمّمون على تحقيق أهدافنا. وسنفضّل إنجازها بالوسائل الدبلوماسيّة. وإلّا فالعمليّة العسكريّة ستستمرّ حتى الوصول إلى أهدافنا”. ولم يعلّق بيسكوف للشبكة على قضيّة الناتو، فانتظر حتى الجمعة لينفي أمام الإعلام الروسيّ هذا الاحتمال.

تشرين الثاني 2024

كان العنوان الأساسيّ لجميع التحليلات بشأن نظرة بوتين إلى الحرب في المدى المنظور هو استمرارها بالحدّ الأدنى حتى معرفة الفائز في الانتخابات الأميركيّة. لو كان الفائز هو دونالد ترامب فمن المحتمل جدّاً أن يقطع الدعم عن أوكرانيا ويتركها لمصيرها أمام روسيا. نظريّاً، تستحقّ هذه الفرضيّة أخذها بالاعتبار، لو أنّ ترامب نفسه كان أكثر وضوحاً. فهو لم يقل فعلاً هذا الكلام بل لفت النظر في حديث سابق مع “سي أن أن” إلى أنّ لدى كلا الرئيسين الروسيّ والأوكرانيّ “نقاط ضعف وقوّة” في تلميح إلى أنّه سيستغلّها لوقف الحرب.

صحيح أنّ ترامب لم يكن قط واضحاً في رؤيته إلى الحلّ في أوكرانيا حيث أطلق عبارات فضفاضة عن إنهاء الحرب في “24 ساعة”، لكنّ أغلب الاستنتاجات المتعلّقة بالتخلّي عن كييف نابعة من انعزاليّته الأوسع تجاه أوروبا والناتو. سبق للكونغرس أن صعّب على أيّ رئيس الانسحاب من الحلف الأطلسيّ إلى حدّ الاستحالة، وذلك استباقاً لفوز ترامب تحديداً. بالتالي، مهما كانت نوايا ترامب تجاه أوكرانيا، قد لا يكون قادراً على ترجمتها بالكامل إلى أوامر تنفيذيّة.

بين المستقبلين المنظور والبعيد

في الصورة العامّة، ثمّة أسباب عدّة تدفع بوتين إلى تأجيل البحث في وقف لإطلاق النار. أوّلاً، تملك روسيا الآن بعض التفوّق النسبيّ في الميدان وهي تحرز تقدّماً بالقرب من باخموت وفي أفيدفكا يمكن البناء عليه في الانتخابات الرئاسيّة القادمة، وإن يكن تقدّماً باهظ الكلفة. ثانياً، لدى بوتين حلفاء في أوروبا قادرون على عرقلة الدعم العسكريّ لأوكرانيا وهذا ما حصل فعلاً. ويبدو الكونغرس الأميركيّ عاجزاً أيضاً عن تمويل كييف بسبب الخلافات بين الجمهوريّين والديموقراطيّين بشأن دعم أوكرانيا وإصلاح سياسة الهجرة. ويبدو أنّ الجمهوريّين لا يريدون أيّ حلّ مقدّم من الرئيس جو بايدن كي لا يصوّر ذلك على أنّه انتصار له في حملته الانتخابيّة. إذاً، تمنح أوراق القوّة هذه الرئيس الروسيّ وقتاً إضافيّاً لتأجيل أيّ اقتراحات بشأن التفاوض فيما لو كانت موجودة فعلاً. لكنّ هذا الوقت ليس بلا حدود.

بالرغم من كلّ الحديث عن التقدّم الميدانيّ واستعادة الإنتاج الحربيّ الروسيّ توازنه في مقابل تعثّر الدعم الغربيّ، يبدو أنّ ثمّة قيوداً على القدرات الروسيّة. من جهة، لا تستطيع موسكو تمويل الحرب إلى ما لا نهاية. الأكاديميّة في مركز روسيا-أوراسيا التابع لمؤسّسة “كارنيغي” ألكسندرا بروبينكو كتبت في “فورين أفيرز” أنّ روسيا تواجه معضلة ثلاثيّة: مواصلة تمويل الحرب والحفاظ على مستوى معيشة الروس والحفاظ على الاستقرار الماكرو-اقتصاديّ. والهدفان الأوّل والثاني سيولّدان التضخّم ممّا يهدّد الهدف الثالث. ورأت أنّ الحرب فاقمت الاعتماد على العائدات النفطيّة والواردات الأجنبيّة وخصوصاً الصينيّة كما الاتّجاهات الديموغرافيّة السلبيّة وهي مشاكل هيكليّة لا تُحلّ إلّا بوقف الحرب.  

من جهة أخرى، وبصرف النظر عن فشلها في الهجوم البرّيّ المضادّ، تمكّنت أوكرانيا من استهداف عدد من الأصول العسكريّة للأسطول الروسيّ في سيباستوبول، ويبدو أنّ عمليّات تخريبيّة عدّة تطال المنشآت النفطيّة داخل الأراضي الروسيّة نفسها. بالتالي، تتوقّف الحرب عن أن تكون محصورة داخل الأراضي الأوكرانيّة ممّا يعني أنّ كلفتها على موسكو قد تتصاعد بمرور الوقت.

هل الرسائل صحيحة؟

ربّما يكتفي بوتين بما تحقّق حتى اليوم ليعلن أنّه أمّن الجسر البرّيّ الحيويّ لدعم شبه جزيرة القرم عبر تحصين المواقع الروسيّة في لوغانسك ودونيتسك والمساحات الجديدة التي سيطر عليها في زابوريجيا وخيرسون. وإذا كان يعتقد أنّ سياسة الولايات المتّحدة تجاه أوكرانيا لن تتبدّل كثيراً تحت إدارة ترامب أو بايدن فيمكنه أن يبدأ منذ اليوم تلمّس مدى استعداد الغرب ومن خلفه أوكرانيا مبادلة الانفتاح على الحوار. مع ذلك، ليس من المستبعد أن تكون كلّ هذه الرسائل مجرّد مناورة لزرع الشقاق بين كييف وحلفائها.

قال المحلّل في “مؤسّسة راند” صمويل شاراب في حديث إلى “بلومبرغ” إنّ كلّ الاحتمالات واردة. “حتى يختبر أحدٌ ذلك المقترح، لن نعلم أبداً بشكل مؤكّد”.