زهير أندراوس
لا يختلف عاقلان بأنّ الرئيس الأمريكيّ، دونالد ترامب، هو إنسان عنصريّ بامتياز، ويكره، كُرهًا شديدًا كلّ ناطقٍ بالضّاد، وكلّ مَنْ يقول لا إله إلّا الله محمدٌ رسول الله. كميّات الحقد التي يحملها في عقله وقلبه تدفعه لاتخاذ قراراتٍ خطيرةٍ على الأمّتين العربيّة والإسلاميّة، دون أنْ يأخذ بعين الاعتبار تداعيات وتبعات وإرهاصات هذه القرارات على السلم والأمن العالميين. يُقال إنّ الحقد والكراهية يقتلان صاحبهما، وعلى النقيض تمامًا تؤكّد المقولة المأثورة أنّ الحُبّ لا يموت. ومن الأهميّة بمكان، التشديد في هذه العُجالة على أنّ الرئيس الأمريكيّ يُقدم على أعماله ضدّنا، قيادةٍ وشعوبًا، دون تملق، أوْ مُداراة، أوْ مُداهنة، أوْ مصانعة ومُلاطفة، الأمر الذي يُضفي بُعدًا فاشيًا على تصرّفاته، وهنا تكمُن حدّة قراراته.
***
علاوةً على ما ذُكر أنفًا، بعد مرور شهرٍ ونيّف على إعلان ترامب بأنّ القدس هي عاصمةً أبديّةً لإسرائيل، وهو إعلان حمل في طيّاته الكثير من الاحتقار والازدراء والإذلال والاستهانة والانتقاص بالعرب والمُسلمين، يُمكن القول، لا الجزم، بأنّ العرب والمُسلمين في جميع أصقاع المعمورة، من حكّامٍ وشعوبٍ، لم يرتقوا إلى مُستوى الحدث التاريخيّ، حيث اقتصرت ردود أفعالهم على التصريحات البلاغيّة والإنشائيّة، وعقد مؤتمراتٍ لا تُسمِن ولا تُغني عن جوع. ومؤتمر إسطنبول، الذي التئم لدراسة القرار الأمريكيّ الفّظ، لم يتخّذ قرارات عمليّة للردّ على هذا التحدّي من الكاوبوي (راعي البقر) في البيت الأبيض، لا بلْ الأسود. كما أنّ التوجّه لمجلس الأمن الدوليّ، والذي واجهته رأس الحيّة، أمريكا، باستخدام حقّ النقض (الفيتو) لم يُضفِ شيئًا على الـ”نضال” العربيّ-الإسلاميّ ضدّ الاعتراف بالقدس عاصمةً لدولة الاحتلال، التي زرعتها الإمبرياليّة وقوى الاستكبار في الشرق الأوسط، كجائزة ترضيّةٍ للحركة الصهيونيّة العنصريّة، على أنقاض الشعب العربيّ الفلسطينيّ، الذي شُرّد وهُجرّ من أرضه، في جريمةٍ تُعتبر من أبشع الجرائم في التاريخ الحديث. مُضافًا إلى ذلك، فإنّ قرار الجمعيّة العموميّة ضدّ القرار، الذي اعتُبر نصرًا للقدس ولفلسطين، هو في نهاية المطاف، قرارٌ غير مُلزمٍ بالمرّة، وبالإمكان القول إنّه انتصار بطعم الهزيمة، لأنّه لم يُغيّر ولن يُغيّر شيئًا على أرض الواقع.
***
إذن، قائدة الإرهاب العالميّ، أمريكا، وربيبتها-حبيبتها إسرائيل، تمكّنتا من اجتياز مرحلة الحرج والخطر، في مشهدٍ يميل إلى السرياليّة وربمّا العبثيّة. لم نسمع عن دولةٍ واحدةٍ، عربيّةٍ أوْ إسلاميّةٍ، تجرّأت على استدعاء السفير الأمريكيّ والاحتجاج على قرار ترامب، مع أنّ هذه الخطوة هي بمثابة أضعف الإيمان. وأكثر من ذلك، الدول العربيّة والإسلاميّة، التي بات شعار مرحلتها بيانات الشجب والاستنكار والتعبير عن الامتعاض لم تتخّذ أيّ خطوةٍ عمليّةٍ أوْ علميّةٍ، أوْ الاثنتين معًا، لتمرير الرسائل لواشنطن بأنّها ترفض القرار جملةً وتفصيلاً، كما أنّ الشارع العربيّ والإسلاميّ، دخل أوْ تمّ إدخاله إلى غرفة العناية المُكثفّة بسبب حالة الموت السريريّ الذي بات واضحًا وجليًا أنّه يُعاني منه. وبناءً عليه، فإنّ ردّ الفعل كان باهتًا وخافتًا وما يزال، ووفق كلّ المؤشّرات سيبقى على حاله، وبالتالي فإنّ قواعد الاشتباك مع الـ”عدّو” الأمريكيّ بقيت على حالها، إنْ لم تتفاقم سلبًا. وخُلاصة الكلام أنّ العرب والمُسلمين شطبوا من خلال تصرّفاتهم في قضية القدس قانون نيوتن الثالث الذي أكّد على أنّه لكلّ فعلٍ ردّ فعلٍ، يُساويه في الشدّة، ويُعاكسه في الاتجاه.
***
ونستحضر في هذا المقام والمقال المثل القائل إنّه مع الأكل تزداد الشهيّة، أوْ بمعنى آخر: ردّ الفعل العربيّ-الإسلاميّ على قرار ترامب، كرسّ الغطرسة الأمريكيّة، ومنح دفعةً كبيرةً للدولة المارقة بامتياز والمُعربدة مع علامة الجودة، إسرائيل، والنتيجة الحتميّة أنّ واشنطن وتل أبيب أطلقتا بالون اختبار في قضية القدس، وتوصلتا إلى قناعةٍ تامّةٍ بأنّه يُمكن المضي قُدُمًا في فرض الوقائع على الأرض، دون أنْ يأخذوا بعين الاعتبار ماذا سيفعل العرب والمُسلمون ضدّ القرارات المُجحفة، التي تهدف إستراتيجيًا إلى تصفية القضية الفلسطينيّة وإزالتها عن الأجندة الدوليّة، الإقليميّة والعالميّة، وهذه النتيجة، ربمّا تكون الأخطر والأشّد وطأةً على فلسطين وشعب فلسطين، في ظلّ حالة الهوان والذُلّ العربيّ والإسلاميّ. من هنا لا نستبعد بالمرّة أنْ تُواصل الإدارة الأمريكيّة الحاليّة، المدعومة من اليمين المُتطرّف ومن المسيحيين الإنجيليين، وطبعًا من اللوبي الصهيونيّ، اتخاذ القرارات لشطب حقّ تقرير المصير للشعب العربيّ الفلسطينيّ، أمّا الاعتماد على الموقف الأوروبيّ، فإنّه عذرٌ أقبح من ذنب: دول القارّة العجوز، ستُواصل المُناورة ضمن الإطار المسموح لها ضدّ السياسة الخارجيّة للولايات المُتحدّة، أمّا مَنْ يُعوّل على الـ”طلاق” بين أمريكا وأوروبا فلا يُعوَّل عليه، ذلك أنّ أوروبا هي التي أوجدت الاستعمار، وهي التي منحت وعد بلفور المشؤوم، وهي التي أقامت إسرائيل على أنقاض شعب فلسطين، وبالتالي ستسمّر في هذه السياسة، مع بروز خلافاتٍ تكتيكيّةٍ، وليس إستراتجيّةً مع واشنطن، وفي المعركة بين الغرب والعرب النتيجة معروفة مُسبقًا: خسارة بالضربة القاضية للأمّتين العربيّة والإسلاميّة.
***
ولكي نُبسّط الأمور هيّا بنا نعود إلى الماضي في مُحاولةٍ لاستشراف الحاضر والمُستقبل: في 21 آب (أغسطس) من العام 1969 شبّ في الجناح الشرقيّ للجامع القبْلي الموجود في الجهة الجنوبيّة للمسجد الأقصى حريق ضخم، التهمت النيران كامل محتويات الجناح، بما في ذلك منبره التاريخيّ المعروف بمنبر صلاح الدين، كما هدّدّ الحريق قبّة الجامع الأثرية المصنوعة من الفضة الخالصة اللامعة. وقد أحدثت هذه الجريمة المُدبرّة من قبل مايكل دينس روهن (1941 – 1995) فوضى في العالم، وفجرّت ثورةً غاضبةً، خاصّةً في أرجاء العالم الإسلاميّ، وفي اليوم التالي للحريق أدّى آلاف المسلمين صلاة الجمعة في الساحة الخارجيّة للمسجد الأقصى وعمّت المظاهرات القدس بعد ذلك احتجاجًا على الحريق، وكان من تداعيات الحريق عقد أوّل مؤتمر قمّةٍ إسلاميٍّ في الرباط بالمغرب. وعندما حٌرق المسجد الأقصى قالت رئيسة الوزراء الإسرائيليّة غولدا مائير: “لم أنم ليلتها وأنا أتخيّل العرب سيدخلون فلسطين أفواجًا من كلّ صوبٍ، لكنّي عندما طلع الصباح ولم يحدث شيء، أدركتُ أنّ باستطاعتنا فعل ما نشاء، فهذه أمّة نائمة”.