مترجم عن shari للكاتب Sonar
مولود مدي
خلال الأسابيع القليلة الماضية، خالف المسؤولون الأتراك أعرافًا لطالما سادت لعقود في جمهورية ما زالت علمانية، على الأقل اسميًا، إذ بدأوا في وصف التدخل العسكري التركي في سوريا بـ«الجهاد». هذا ما يراه سونر كاجبتاي، وهو عالم سياسي تركي-أمريكي.
ويضيف كاجبتاي في مقال له نشر في صحيفة «واشنطن بوست»، أنه خلال اليومين الأولين من العملية التي بدأت في 20 يناير (كانون الثاني) «أمرت» مديرية الشؤون الدينية التابعة للحكومة كافة مساجد تركيا – التي يقارب عددها 90 ألفًا – بأن تبث سورة «الفتح» من القرآن عبر مكبرات الصوت من مآذنها. ويُعتبر تعميم الجهاد الذي يجيز استخدام العنف ضد أولئك الذين «يسيئون إلى الإسلام» خطوة أساسية لإلباس مجتمع معين رداء الشريعة. وللأسف يبدو أن تركيا تتجه ببطء نحو هذا المسار، بحسب تعبير الكاتب.
وفي الغرب، غالبًا ما يرتبط مفهوم الشريعة بالعقاب البدني، مثل قطع الرأس الذي يمارسه المتطرفون الإسلاميون، وعناصر تنظيم، أمثال تلك النشطة في «تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)». ولكن في الواقع، هناك عدد قليل من البلدان، مثل إيران والمملكة العربية السعودية، التي تطبق الشريعة على هذا النحو.
لدى معظم الدول الإسلامية مزيج من القوانين الدينية والعلمانية التي تستدعي أشكالًا أخرى أقل قساوة من الشريعة. وفي هذه الحالات تصب الشريعة في شبكة معقدة من التدابير القانونية والسياسية والإدارية. فمن خلال التماهي مع سلطة الدولة، كما تفرض الشريعة ممارسات إسلامية على عامة الشعب، مثل الصيام خلال شهر رمضان. كما تشيطن أولئك الذين لا يلتزمون بهذه الممارسات، وتعاقب الخطابات أو الأفعال التي تعتبرها مسيئة للإسلام.
اقرأ أيضًا: «أنا وابن عمي على الغريب».. الأكراد يستنجدون بـ«الأسد» لمنع تركيا من دخول عفرين
وبالتالي – يستطردالكاتب – لا تمثل الشريعة في ممارستها الشائعة عباءة سوداء أو مقصلة الإعدام، بل ستارًا غير نافذ يغلف المجتمع بأسره. ويختار العديد من المسلمين الأتقياء بصورة فردية الالتزام ببعض تعاليم الشريعة الإسلامية، أو جميعها، التي ترشدهم في تدينهم. ولكن كقوة سياسية تستمد الشريعة قوتها من آليات الضغط الحكومية والمجتمعية. ومعًا تجبر المواطنين على التقيد بنهج الإسلام المحافظ.
إن تركيا، التي تأسست من قبل مصطفى كمال أتاتورك كجمهورية علمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، لطالما تمكنت من إبقاء الشريعة خارج المجال الرسمي؛ مما جعلها ناشزة من بين الدول ذات الأغلبية المسلمة. ويضيف الكاتب أنه فيما يبقى النظام الدستوري العلماني قائمًا في تركيا، فإن بحثه الخاص واستطلاعات الرأي والتطورات الأخيرة مجتمعةً تظهر أن ثمة تحولًا خطيرًا في البلاد.
وفي السنوات الأخيرة، عمدت الحكومة بزعامة رجب طيب أردوغان إلى تقييد الحريات الفردية ومعاقبة الأفراد الذين «يهينون الإسلام» أو يهملون الممارسات الإسلامية. فمنذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، تقوم الشرطة الوطنية – التي تسيطر عليها الحكومة المركزية برصد التعليقات المتعلقة بالدين على الإنترنت وقمع حرية التعبير عندما تجد أن تلك التعليقات «مسيئة للإسلام».
اقرأ أيضًا: تركيا وإيران.. طرفا نقيض أم حلفاء أقوياء؟
وبعيدًا عن الشاشة، أصبح من الشائع أن تقوم الشرطة بتوقيف من ينتقد الإسلام علنًا. فعلى سبيل المثال، خضع عازف البيانو التركي فاضل ساي، المشهور عالميًا، للمحاكمة مرتين؛ على خلفية «تعليقات مستفزة» بحق الإسلام. أما جريمته فهي: الاستهزاء بخفة بأذان الصلاة على موقع «تويتر».
كما يرى الكاتب أن الشبكة التلفزيونية التركية الرسمية «تي آر تي» تشوّه سمعة أولئك الذين لا يلتزمون بالممارسات الإسلامية. ففي يونيو (حزيران) 2016 استضافت البروفيسور مصطفى عسكر المتخصص في الشريعة الإسلامية، الذي قال خلال بث حي: إنّ «أولئك الذين لا يؤدون الصلاة التي يمليها الإسلام هم حيوانات».
ويشكل التعليم ركيزة أساسية من جهود أردوغان الرامية إلى بسط الشريعة في البلاد. فالنظام التعليمي في تركيا، مثله مثل الشرطة، يخضع لسيطرة الحكومة المركزية، كما أن وزارة التربية والتعليم تمارس ضغوطًا على المواطنين للتقيد بالممارسات الإسلامية المحافِظة في المدارس الحكومية.
وتقوم الحكومة رسميًا بإدراج الممارسات الدينية في النظام التعليمي الحكومي من خلال إلزام كافة المدارس حديثة النشأة في تركيا بتخصيص غرف صلاة في حرمها. وفي الآونة الأخيرة – على سبيل المثال – طلب مسؤول تعليم محلي في إسطنبول من المعلمين اصطحاب التلاميذ إلى المساجد المحلية لتأدية صلاة الصبح.
وجل ما يعكس جهود أردوغان لدمج الممارسات الإسلامية مع سلطته السياسية هو مقام «مديرية الشؤون الدينية» – المعروفة باللغة التركية باسم «ديانيت» (مؤسسة تركيا ديانيت) – الذي تم رفعه مؤخرًا. فقد أسس أتاتورك هذا المكتب البيروقراطي عام 1924 لتنظيم الخدمات الدينية بأسلوبه العلماني.
اقرأ أيضًا: رغم تفاقم اليأس.. هل تجددت فرص نجاح «الثورة السورية» بعد حرب تركيا في عفرين؟
وكان المسؤول عن «ديانيت» يخضع سابقًا لوزير، إلا أن أردوغان رفع مقام الزعيم الجديد للمديرية، علي أرباش، إلى نائب رئيس بحكم الواقع. فأرباش يشارك اليوم بانتظام في مناسبات عامة بارزة إلى جانب أردوغان، مانحًا بركته لكل المشروعات، بدءًا من جسر إسطنبول الثالث عبر مضيق البوسفور إلى الحملة التركية ضد الميليشيات الكردية في سوريا.
وانطلاقًا من سلطتها السياسية الجديدة، بدأت «ديانيت» بإصدار أوامر لإدراج عناصر من الشريعة الإسلامية في المجتمع التركي. وفي الآونة الأخيرة أصدرت المديرية فتوى على موقعها الإلكتروني مفادها: أن الفتيات اللواتي يبلغن من العمر تسع سنوات، والفتيان الذين تقل أعمارهم عن 12 عامًا، يحق لهم الزواج؛ لأن الرشد يبدأ من البلوغ وفقًا للشريعة، ولكن «ديانيت» واجهت غضبًا شعبيًا عارمًا، فأبطلت تلك الفتوى في الوقت الراهن. وفي الآونة الأخيرة أيضًا في 9 فبراير (شباط) أعلنت الهيئة الدينية عن خطّة جديدة لتعيين ممثلين عن «ديانيت» بين التلاميذ في كل صف من المدارس الحكومية في تركيا الذي يبلغ عددها حوالي 60 ألف مدرسة؛ مما يضع التعليم الحكومي تحت الرقابة الأكثر تشددًا للدين الموجه من قبل أردوغان.
ويختتم كاجبتاي مقاله بأن أولئك الذين يتوقعون من أردوغان إعلان تطبيق الشريعة في تركيا، سيضطرون إلى الانتظار لبعض الوقت؛ إذ إن التغيير لن يحدث بين عشية وضحاها، بل يحصل تدريجيًا مع إسدال ستار الشريعة الشفاف على تركيا.