وثيقة الأمن القومي الأمريكي الجديدة

2

محمد خليفة- صحيفة الخليج الإماراتية

المرحلة الراهنة التي يعيشها المجتمع الدولي المعاصر هي مرحلة مخاض عسير لم تتضح فيها الرؤية بشكل دقيق، ولم تتبين فيها معالم الطريق. خاصة بعد الانقسام العميق بين الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، حليفها الأكبر.

تساؤلات عديدة لا تخلو من الكثير من الإثارة والغموض، ومنها: ما هي الصورة التي سيكون عليها هذا التوزيع الجديد للقوى في العالم؟ وما هي المبادئ أو القيم التي تستند إليها العلاقات الدولية؟ بعد أن أصدرت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخراً، استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة، والتي تناولت جوانب متعددة أهمها، تخفيض الاهتمام بأوروبا، حيث دعت الوثيقة إلى «القضاء على الانطباع السائد بأن «حلف الناتو تحالفٌ دائم التوسع». وانتقدت المسؤولين الأوروبيين ل«توقعاتهم غير الواقعية» بشأن الحرب في أوكرانيا، وقالت إن «تخريب العمليات الديمقراطية» في أوروبا يعوق رغبةً شعبيةً واسعةً في السلام. ودعت الوثيقة إلى إنهاء الأعمال العدائية في أوكرانيا بسرعة، وإعادة إرساء «الاستقرار الاستراتيجي» مع روسيا، ودعت الوثيقة إلى التركيز على قارة أمريكا، بوصفها الفناء الخلفي للولايات المتحدة، والتي ينبغي أن تكون علاقات دولها كلها مرتبطة بالولايات المتحدة فقط، لا بأي دولة أخرى في العالم. حيث دعت الاستراتيجية إلى تحويل الاهتمام العسكري نحو «النصف الغربي من الكرة الأرضية، بعيداً عن مسارح العمليات الأخرى، بما في ذلك الشرق الأوسط» الذي تقول الاستراتيجية إنه «تراجعت أهميته نتيجةً لاستقلال الولايات المتحدة المتزايد في مجال الطاقة». وتُولي الاستراتيجية اهتماماً ضئيلاً لإفريقيا، مُحددةً إياها بشكل رئيسي كمصدر للموارد الطبيعية.

وتلتزم الاستراتيجية بالحفاظ على منطقة المحيطين الهندي والهادئ حرةً ومفتوحةً، وتشير إلى أن «ردع الصراع على تايوان، من خلال الحفاظ على التفوق العسكري، أولوية»، وتؤكد السياسة الأمريكية الحالية الرافضة «لأي تغيير أحادي الجانب للوضع الراهن في مضيق تايوان». وتُعلي الاستراتيجية من شأن المصالح الاقتصادية الأمريكية المتمثلة في إعادة التصنيع، والوصول إلى سلاسل التوريد الحيوية، وتعزيز القاعدة الصناعية الدفاعية.

وتحوي هذه الاستراتيجية عناصر مهمة، أبرزها إهمال أوروبا وتركها لمصيرها، ذلك أن دول أوروبا اليوم، بالنسبة للولايات المتحدة، هي بمثابة مجموعة من الأثرياء الذين فقدوا ثرواتهم، وأصبحوا يعيشون على ما بقي لهم من ثروة. ومنذ عودة الرئيس دونالد ترامب إلى حكم الولايات المتحدة كان متوقعاً أن يعيد النظر في علاقة بلاده بأوروبا، ففي ولايته الأولى، قلل الاعتماد على الشركاء الأوروبيين وأهمل حلف شمال الأطلسي حتى أصبح في حالة موت سريري. واليوم يعود إلى السياسة نفسها، فهو يرى أن أوروبا ليست حليفاً، بل مجرد عبء تحمله الولايات المتحدة على كتفيها.

لقد كانت أوروبا، مطلع القرن العشرين، قوة عالمية عظمى قبل أن تنهكها الحروب، وترثها الولايات المتحدة اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً. وبعد دعم الولايات المتحدة لها للتصدي للفكر الشيوعي، وكانت أوروبا رأس الحربة في هذا الصراع، لكنها بعد تفكك الاتحاد السوفييتي أصبحت عبئاً قررت إدارة ترامب التخلص منه.

ومن جانب آخر، فإن الاستراتيجية تنظر إلى روسيا كقوة عظمى مؤثرة، وتدعو إلى إقامة علاقات معها من أجل ترسيخ الاستقرار الاستراتيجي، والعنصر الثاني في الاستراتيجية: موضوع الشرق الأقصى، والصراع مع الصين، والسعي إلى احتواء الهند، وذلك من خلال التركيز على المحيطين الهندي والهادئ، حيث لا تزال قضية تايوان مصيرية بالنسبة للولايات المتحدة التي لا يمكن التخلي عنها، ليس لأن تايوان ذات قيمة عظيمة، بل من أجل ابتزاز الصين ومنع هيمنتها المطلقة على كامل بحر الصين الجنوبي.

أما الهند فهي لا تشكل خطراً لأنها محاطة بالأعداء: الصين من جانب، وباكستان حليف الولايات المتحدة من جانب آخر. وبالنسبة إلى الشرق الأوسط، فإن الاستراتيجية تزعم أن الولايات المتحدة ستخفف اهتمامها بهذه المنطقة بسبب وصولها إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي من النفط، لكن، في الحقيقة، ستبقى هذه المنطقة في قلب السياسة الأمريكية في العالم، ليس من أجل الثروات فقط، بل موقعها الاستراتيجي فهي قلب العالم، وبوصلة التجارة العالمية، وإذا خففت الولايات المتحدة وجودها العسكري، فإنها ستقدم أكبر هدية للصين لتوسيع نفوذها.

أما روسيا، فإن إدارة ترامب، من خلال الاعتراف بها كقوة استراتيجية عالمية، تجعلها منافسة للصين لا حليفة، والمنافس قد يتحول إلى عدو عند الصراع على مناطق النفوذ.

وبالنسبة إلى قارة أمريكا، تملك الولايات المتحدة تأثيراً ضخماً على الكثير من الدول في هذه القارة، لكنها لن تستطيع جعلها حديقة خلفية لها، خاصة في ظل وجود تيار قوي من اليسار يهيمن على عدد من الدول مثل: كوبا وفنزويلا وبوليفيا وعلى رأسها البرازيل إحدى دول البريكس، وهناك المكسيك التي انتزع الأمريكان منها ثلث أراضيها عام 1843.

إن مساعي ترامب إلى إخضاع فنزويلا قد تتحول إلى قنبلة تنفجر في وجه تلك الإدارة، فشعوب أمريكا الجنوبية لن تقبل بالتبعية، وهي تنظر للولايات المتحدة كوجه قبيح للاستعمار القديم.

 

التعليقات معطلة.