المصدر: النهار العربي
رياض قهوجي
يستمر الانقسام السياسي الحاد في لبنان بإضعاف الدولة ومؤسساتها التي تفرغ العديد من مناصبها الرئيسية من شاغريها بحكم بلوغهم سن التقاعد. ومع الفشل المستمر بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، تعمل حكومة تصريف الأعمال بأقل من نصف طاقتها بسبب الانقسام بين المكونات السياسية حول حجم الصلاحيات التي يمكن أن تمارسها. والانقسام نفسه يمنع مجلس النواب من التشريع. ولقد أدى هذا الوضع إلى شغور مركز حاكمية مصرف لبنان. لكن هذا الفراغ جرى احتواؤه نتيجة وجود نواب للحاكم يتمتعون بصلاحيات تمكنهم من استمرارية عمل هذه المؤسسة الحيوية. لكن المشكلة الكبيرة ستكون في التعاطي مع الفراغ المتوقع في قيادة الجيش مطلع العام المقبل.
فقيادة الجيش لها هرمية واضحة تؤمن استمرارية عمليات المؤسسة العسكرية التي تعتبر صمام الأمان الأساسي، إن لم يكن الوحيد في البلد. فعند غياب قائد الجيش يتولى رئيس الأركان هذه المهمة. لكن اليوم لا رئيس للأركان، ووزير الدفاع المحسوب على التيار الوطني الحر يرفض التوقيع على أي قرارات لتعيين أعضاء المجلس العسكري – ومن ضمنهم رئيس الأركان – بحجة عدم امتلاك حكومة تصريف الأعمال صلاحية التعيين. ويجري الحديث عن أن الضابط الأعلى رتبة وهو اللواء بيار صعب – العضو الوحيد المتبقي في المجلس العسكري إلى جانب القائد – يجب أن يتسلم مهام قيادة الجيش.
لكن يبدو أن هناك آراء عديدة من داخل الجيش وخارجه لا تعتقد بأن اللواء صعب يمكن أن يتولى هذه المهمة، كون مركزه الحالي لا يملك أي دور في إدارة عمليات المؤسسة. فهو عضو المجلس الذي يأخذ قرارات متعلقة برسم سياسة المؤسسة العسكرية وخططها الاستراتيجية. وعليه، فإن هناك احتمالاً أن يقدم قائد الجيش قبل تقاعده مباشرة على تكليف ضابط رفيع بتسيير مهام القوات المسلحة وعمليّاتها.
وفي حال حصول ذلك وأصر وزير الدفاع على اعتبار اللواء صعب قائداً للجيش بالوكالة، فإن المؤسسة العسكرية قد تشهد حالة غير طبيعية وربما انقساماً على مستوى القيادة ستغذيه الانقسامات بين الأحزاب السياسية في البلد. هذا سيضع الجيش في وضع خطير، خاصة أنه يكافح للحفاظ على ثقة المجتمع الدولي به من أجل استمرار المساعدات المالية والعينية له، والتي أبقته قادراً على أداء مهامه حتى اليوم.
فمنذ الانهيار المالي في لبنان وفقدان الليرة اللبنانية قيمتها، تسعى قيادة الجيش لتوفير دولار “فريش” لتكون ضمن رواتب العسكريين والضباط. كما تسعى القيادة لتأمين حاجاتها من الطعام والطبابة لعناصرها، بالإضافة إلى المازوت لآلياتها ومحركاتها الكهربائية والفيول لطائراتها. وهي بحاجة أيضاً لقطع غيار وصيانة لعتادها وآلياتها، إضافة إلى الذخائر. هذه جميعها أمور يتم الحصول عليها بالدولار.
وبسبب التوترات السياسية المستمرة في البلد والأخطار العديدة التي تواجهه، مثل الإرهاب والنزوح السوري والتهريب على الحدود المائية والبرية ومكافحة المخدرات، فإن قطاعات الجيش كافة تعمل على مدار الساعة دون توقف. باستثناء الجزء الأكبر من الرواتب، لا توفر الدولة اللبنانية أياً من المصاريف الأخرى للجيش، ويتم تأمينها اليوم من المساعدات الدولية، خاصة من الولايات المتحدة الأميركية وقطر.
أي تهديد لوحدة قيادة الجيش سيؤدي إلى زعزعة الثقة الدولية في المؤسسة العسكرية، ما قد يوقف المساعدات المالية الخارجية لها، وهذا سيصيبها بشلل تام سيوقف عملياتها من جنوب لبنان حتى شماله. سيناريو كهذا، وإن تحقق، سيضع لبنان في دائرة خطر جديدة لم يعرف مثلها منذ انقسام الجيش خلال الحرب الأهلية في ثمانينات القرن الماضي. حتى حينها كان الوضع أفضل، كون الأوضاع الاقتصادية لم تكن سيئة كما هي عليه الحال اليوم.
السماح باستمرار الوضع على ما هو عليه اليوم من تعطيل لانتخاب رئيس ومنع تعيينات جديدة في قيادة الجيش بات خطيراً، وهو يؤشر لتواطؤ بين قوى تريد إضعاف المؤسسة العسكرية أو أقله لا تكترث كثيراً بوضع هذه المؤسسة واستمراريتها بتأدية مهامها. وتتحدث بعض التحليلات بأن رئيس التيار الوطني الحر الوزير جبران باسيل يريد إضاعة الوقت بمحادثات مع قوى سياسية بهدف الانتظار حتى تقاعد قائد الجيش العماد جوزيف عون بعد أربعة أشهر وخروجه من المعادلة الرئاسية. فهو، حسب اعتقاد العديد من المحللين والسياسيين، لا يريد أن يأتي قائد جيش له شعبية كبيرة، خاصة في الأوساط المسيحية، رئيساً للجمهورية.
بغض النظر عما إذا كانت هذه التحليلات دقيقة، إلا أنه من الثابت أن تعطيل الانتخابات الرئاسية، وفي الوقت عينه منع مجلس الوزراء من تعيين أعضاء جدد في المجلس العسكري، وتحديداً رئيساً للأركان، سيأتي بضرر كبير على الجيش والاستقرار الداخلي. فيجب على جميع القوى السياسية اعتبار الجيش اللبناني خطاً أحمرَ لا يجوز تخطيه أو اللعب به من أجل مصالح شخصية محدودة.
تجدر الإشارة إلى أن كل هذا يحدث في وقت تشهد الساحة السورية ارتفاعاً في وتيرة عمليات “داعش”، وتعيش المخيمات الفلسطينية حالة توتر شديد، وتشهد الحدود مع سوريا موجات من النزوح غير الشرعي، ويعيش جنوب لبنان حالة من خطر التهديدات الإسرائيلية. فمع من ستنسق قوات الأمم المتحدة في الجنوب في تسيير عملياتها إن لم يكن الجيش اللبناني قادراً على مواكبتها؟ هذا مع العلم أن قرار التجديد لهذه القوات سمح لها بتسيير عمليات متى وأين ما شاءت وحتى دون وجود عناصر الجيش اللبناني.
أظهرت الحوادث الأمنية التي شهدتها الساحة اللبنانية خلال العامين الأخيرين أن الجيش اللبناني هو صمام الأمان الوحيد للسلم الأهلي في البلد. وحده الجيش يستطيع الفصل بين المجموعات المسلحة أو الغاضبة عند كل اشتباك مذهبي أو طائفي. وهو الجهة الوحيدة التي تستطيع اقتحام أوكار عصابات المخدرات في شرق البلاد وشمالها، والمؤسسة الوحيدة التي تملك القدرات للتعامل مع النازحين غير الشرعيين من سوريا أو المهاجرين غير الشرعيين الذين يحاولون الفرار بحراً من الشواطئ اللبنانية باتجاه أوروبا. وهو المؤسسة الوحيدة التي لا تزال تحتفط بما تبقى من الهوية اللبنانية. وعليه، فإن مسؤولية الزعماء اللبنانيين كافة الحفاظ على قيادتها موحدة وتوفير الغطاء السياسي لها لتؤدي مهامها على أكمل وجه. وأي شيء أقل من ذلك يمثل تهديداً لأمن لبنان واستقراره ووحدته وما تبقى من هويته الوطنية.