محمد عبد الصادق
في مصر هناك مثل شعبي يقول: “إذا فاتك الميري اتمرغ في ترابه” .. والمقصود به تمجيد الوظيفة الحكومية والاستماتة في الوصول إليها، وللأسف انتقلت هذه الآفة إلى كثير من بلادنا العربية، لدرجة أن بعض الشباب العربي الذي يعمل في القطاع الخاص أو يمارس أعمالا حرة، يعتبر نفسه عاطلا عن العمل مهما حقق من نجاحات ومهما بلغ دخله من هذا العمل ما دام لم يحصل على وظيفة “حكومية” ولا يهدأ له بال حتى يلتحق بعمل حكومي حتى لو كان أجره أقل.
وأصبح الحصول على وظيفة حكومية غاية وأمل كل شاب ينتهي من دراسته أملا في تحقيق الأمان المادي والاستقرار الاجتماعي، حيث يتحصل من خلالها على دخل مادي مضمون كل شهر ولا تستطيع جهة ما أو كائن من كان ـ مهما علا شأنه ـ أن يفصله أو ينزع عنه وظيفته ما دام تم تثبيته وسكن في الدرجة الوظيفية المعتبرة، إلا بحكم قضائي في حال اقترافه جريمة مخلة بالشرف، ولا يستطيع مديره ولا رئيسه فصله أو حرمانه من راتبه مهما اقترف من إهمال أو تقصير أو ارتكب من مخالفات أو تأخر أو انقطع عن العمل، حتى أصبحت الوظيفة الحكومية ـ في بعض العائلات ـ شرطا للموافقة على العريس المتقدم للزواج من إحدى بناتها من أجل ضمان المستقبل والاستقرار للأسرة والأولاد.
أصيب الجهاز الإداري في معظم دولنا العربية بتخمة في عدد موظفيه، وأصبحت الأجور والمرتبات الحكومية عبئا ثقيلا يستنزف موارد الدولة، وسببا رئيسيا للعجز المزمن في موازناتها؛ حيث تبتلع الأجور والمرتبات 70% من موازنات التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية ولا يتبقى سوى الفتات لا يكفي لإنشاء مدارس مجهزة تواجه الزيادة المطردة في أعداد الطلاب ولا مشافٍ جديدة تستوعب العدد المتزايد من الأسرة اللازمة لعلاج المرضى المرهونين على لائحة الانتظار, ونفس الشيء في قطاعات الرعاية الاجتماعية والشباب والرياضة والنقل والزراعة والبحث العلمي؛ لا تجد الوزارات ميزانيات للصرف على الغرض الأساسي الذي أنشئت من أجله؛ ناهيك عن ميزانيات البحث والتطوير التي أصبحت في خبر كان، وتم اختزالها إلى ملفات تملأ الأدراج، ولوحات توضع أعلى “مواقف السيارات” وفوق مكاتب عدد من الموظفين لا يختلفون عن أقرانهم الجالسين بجوارهم؛ في انتظار الراتب الحكومي، مهما علت المؤهلات وندرت التخصصات والشهادات الحاصلين عليها.
اضطر كثير من الحكومات العربية للاستدانة الداخلية والخارجية لتمويل بند الأجور والمرتبات, واضطر بعضها لوقف التعيينات الجديدة، وشرعت حكومات أخرى أكثر جرأة في تقليص عدد الموظفين، بفسح المجال أمام الراغب منهم في المعاش المبكر.
ونتيجة لاستمرار الأزمات الاقتصادية وتراجع الإيرادات الحكومية وضغوط صندوق النقد الدولي وجهات التمويل الدولية، راحت بعض الحكومات العربية تبحث عن وسائل قانونية تستطيع من خلالها تقليص عدد الموظفين، من خلال تشريعات برلمانية تجيز فصل الموظف الحكومي وإنهاء خدمته في حالة تقاعسه أو إهماله في العمل، وتغيير النصوص الدستورية التي تعطي الموظف الحق في العودة لعمله بحكم المحكمة.
ووفقا للمعدلات العالمية لعدد الموظفين مقارنة بعدد السكان؛ نجد أن معظم الحكومات العربية تعاني من ترهل في الجهاز الإداري، نتيجة زيادة عدد الموظفين اللازمين لأداء الخدمات الحكومية، وربما هذه الزيادة أحد أسباب تدني مستوى الخدمة ومعاناة المواطن العربي من الروتين وتعدد الجهات والدوائر التي تمر بها الأوراق والموافقات والتصاريح والرخص الحكومية.
ففي دولة مثل الصين عدد سكانها يقترب من مليار وأربعمائة نسمة، يخدمهم 7 ملايين موظف عمومي، وهذا العدد يقترب من عدد الموظفين الحكوميين بمصر الذين يصل عددهم لقرابة 6 ملايين موظف، بمعدل موظف لكل 200 صيني في بلد يصل عدد القوى العاملة فيه إلى أكثر من 850 مليون عامل في القطاع الخاص، بينما في مصر هناك موظف حكومي لكل 15 مواطنا وعدد العاملين في القطاع الخاص والاقتصاد غير الرسمي 17 مليون عامل.
للأسف أزمة التوظيف لم تقتصر على القطاع الحكومي، ولكنها امتدت إلى القطاع الخاص، بسبب “تعلقه في رقبة الحكومة” في معظم بلادنا العربية، حيث معظم الشركات الخاصة تعتمد في تشغيلها على ما تطرحه الحكومات من مشروعات ومناقصات، ومع استمرار العجز في الموازنات تراجع الإنفاق الحكومي وتقلصت المشروعات والمناقصات، وأصبح هم الحكومة الأساسي تدبير الأجور والمرتبات للموظفين، ونتج عن ذلك إغلاق شركات وتوقف مشروعات وفقد الكثير من العاملين بالقطاع الخاص وظائفهم.
لجأت بعض الحكومات العربية إلى إنشاء صناديق وبرامج تمويل بالتعاون مع البنوك لدعم الشباب لإقامة مشروعات صغيرة ومتوسطة بشرط تخلي الشاب عن حلم الوظيفة الحكومية، بمنحه قرضا ميسرا بفائدة بسيطة وبضمانات معقولة في حالة التأكد من الجدية, كما تساعد الشباب في إعداد دراسات الجدوى لمشروعاتهم وتقديم المشورة الفنية والإدارية لهم حتى تخرج مشروعاتهم إلى النور.
وقد التقيت في مصر بنماذج من الشباب الذين لفظوا الوظيفة واختاروا العمل الحر، واستفادوا من قروض الصندوق الاجتماعي في إقامة مشروعاتهم الصغيرة والمتوسطة، ورغم الصعوبات التي واجهتهم في البداية لتسويق منتجاتهم، إلا أنهم مع العزيمة والإصرار على النجاح، استطاعوا عبور أزمة البدايات وتحقيق التواجد لمنتجاتهم، وحولوا الخسائر إلى أرباح مكنتهم من التوسع في مشروعاتهم، وتحقيق الأمان المالي، بعيدا عن الوظيفة التي أصبحت في مهب الريح، يتآكل راتبها ما بين التعويم والترشيد وغلاء الأسعار، ويظل صاحبها عرضة لتعب الأعصاب كلما سمع عبارات “سيئة السمعة” من عينة الأزمة الاقتصادية وإعادة الهيكلة أو قرب إغلاق المنشأة التي يعمل بها وتسريح العمال والموظفين.