من المضحك المبكي أن يلوح بعض مروجي الخضوع بفزاعة الحرب الأهلية كلما طرحت فكرة نزع سلاح “حزب الله” بالقوة إذا رفض التسليم طوعاً
ملخص
أية مهزلة هذه؟ أية جمهورية هذه التي تنتظر ميليشيات لتقرر عنها؟ ما جدوى الانتخابات والمؤسسات والدستور إذا كان الجواب الفعلي في الدويلة التي لم تخجل يوماً من إعلان أن قرار الحرب والسلم خارج يد الدولة وأن القرار السيادي يكتب في الضاحية الجنوبية ويقرأ في طهران؟
مرة جديدة يكشف الواقع اللبناني عن أن من يتحكم بمصير البلاد ليس هو الدستور ولا المؤسسات ولا حتى ما بقي من إرادة وطنية، بل ميليشيات تحولت إلى دولة داخل الدولة وسلطة سياسية لا تجيد إلا لعبة الإنكار والتسويات الهزيلة.
ولعل ما جرى أخيراً مع ورقة المبعوث الأميركي توماس باراك هو الدليل الحي والعلني والفاضح على أن “دولة لبنان” التي يفترض أن تحمي شعبها وتصون سيادتها وتضبط حدودها فقدت أبسط مقومات القرار السيادي، فتنازلت عن ملفاتها المصيرية لحزب مسلح يفاوض باسمها ويقرر عنها، وكأننا أمام كيانين “جمهورية لبنان” الورقية و”جمهورية السلاح” الفعلية.
لمن لم يتابع التفاصيل، الورقة التي سلمها المبعوث الأميركي يفترض أنها خريطة طريق إنقاذية، أو في الأقل اختبار نوايا، لمعرفة ما إذا كان لبنان الرسمي مستعداً للوفاء بتعهداته القديمة، حصرية السلاح بيد الدولة وتنفيذ القرارات الدولية وضبط الحدود ووقف التورط في حروب الآخرين.
ورقة كان يفترض أن تقرأ في مجلس الوزراء وتناقش داخل المؤسسات الدستورية، وتردّ عليها بحزم وإجماع وطني، لكن ما حصل كان فضيحة مكتملة الأركان، تشتت بين الرؤساء الثلاثة وشد وجذب وتفاهمات هشة تمت تحت ضغط دولي كبير، وأخطر ما فيها أن القرار النهائي حُوّل إلى “حزب الله” ليراجع ويعدل ويعطي رأيه!
أية مهزلة هذه؟ أية جمهورية هذه التي تنتظر ميليشيات لتقرر عنها؟ ما جدوى الانتخابات والمؤسسات والدستور إذا كان الجواب الفعلي في الدويلة التي لم تخجل يوماً من إعلان أن قرار الحرب والسلم خارج يد الدولة وأن القرار السيادي يكتب في الضاحية الجنوبية ويقرأ في طهران؟
انتهاك للدستور
الأدهى أن كل هذا التخبط تزامن مع تجاوز فج لأبسط آليات العمل الدستوري، فالورقة كان يفترض أن تدرس وترد عبر مجلس الوزراء مجتمعاً، باعتباره الجهة التنفيذية الأولى في الدولة، والمسؤول الوحيد دستورياً عن كل ما يتعلق بالأمن والدفاع والسياسة الخارجية، لكن بدلاً من ذلك تحولت المسألة إلى بازار بين الرؤساء الثلاثة، ثم إلى “مادة نقاش” لدى الحزب الذي يفترض أصلاً أن يلزم تطبيق قرارات حكومية واضحة لا أن يصبح شريكاً في صياغتها.
وما يزيد الوقاحة وضوحاً أن السلاح الذي تتفاوض عليه السلطة اللبنانية اليوم، ليس مادة جديدة مطروحة على الطاولة. فمسألة حصرية السلاح بيد الدولة حسمت قبل أعوام في البيان الوزاري الذي شارك “حزب الله” نفسه في صياغته وصوت عليه في مجلس النواب، كما أن اتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل تضمن هذه الحصرية بوضوح. إذاً، لسنا أمام “اتفاق جديد”، بل أمام امتحان جدية الدولة في تنفيذ ما التزمت به. وامتحان يفشل فيه لبنان الرسمي للمرة الألف، مفضلاً سياسة “التراضي” على حساب السيادة.
من المضحك المبكي أن يلوح بعض مروجي الخضوع بفزاعة الحرب الأهلية كلما طرحت فكرة نزع سلاح “حزب الله” بالقوة إذا رفض التسليم طوعاً. وفي الواقع هذه كذبة يراد بها تجميد كل قرار سيادي لأن الحرب الأهلية لا تقوم إلا حين يكون هناك طرفان أو أكثر يحملان السلاح ويقتتلان على الأرض، أما في حالنا فالأمر واضح لدينا دولة معترف بها وجيش رسمي من واجبه دستوراً أن يفرض القانون بالقوة على أية جهة متمردة. وما نراه اليوم ليس “تعايشاً” ولا “تسوية”، بل إنه شلل كامل لمؤسسات الدولة أمام سطوة ميليشيات مسلحة. فإما أن تقوم الدولة بواجبها، أو تعلن استسلامها رسمياً وتترك الناس لمصير “الدويلة” بلا خجل.
رئاسة بلا صلاحية… أم بلا إرادة؟
أكثر ما يكشف عن عمق الأزمة هو موقف الرئاسة اللبنانية التي لا تزال تصر على سياسة “الحوار” مع “حزب الله”، وكأن 20 عاماً من الحوارات الفارغة لم تكُن كافية لإثبات العقم الكامل لهذه المسرحية. فمن “طاولة الحوار الوطني” إلى “إعلان بعبدا” الذي وقع ثم مزق بتهكم على لسان محمد رعد “اشرب ميتو”، متى يفهم بعض الرؤساء أن الحزب لا يتفاوض ليقدم تنازلات، بل ليكسب وقتاً ويمارس المماطلة ويستنزف خصومه ويبقي سلاحه مشرعاً؟