مصالحة غزة: السلام أم بناء المؤسسات؟
تحجب التقلبات الإقليمية والأزمات المتوالدة، وآخرها تداعيات الاستفتاء على الاستقلال في كردستان العراق، التطور البارز بتحقيق المصالحة الفلسطينية بين حركتي «فتح» و «حماس» وعودة الأولى ومعها الحكومة الفلسطينية إلى قطاع غزة هذا الأسبوع.
بعد 10 سنوات من التشرذم، بدأت بصراع دموي غير مسبوق في الساحة الفلسطينية قوّض الوحدة الوطنية التي طالما تميز بها الفلسطينيون عن سائر العرب، بدا كم أن فرح شعب غزة بدخول رئيس حكومة «رام الله» رامي الحمدالله وأعضاء حكومة «التوافق الوطني» القطاع الثلثاء الماضي، واجتماعه مع إسماعيل هنية وقادة «حماس»، شكل بارقة أمل للفلسطينيين العاديين، وكم أن سيطرة «حماس» على القطاع وإدارتها له أثقلتا على الناس البسطاء. هذا كان سبباً كافياً لإقبال «حماس» على المصالحة بجدية أكبر من المحاولات السابقة التي فشلت نتيجة التدخلات الخارجية. ثبت أن «حماس» أخفقت في إدارة القطاع بالقوة التي استخدمتها حين وقع الصدام المسلح مع «فتح» وبعد طرد كوادر الأخيرة وقادة بارزين في العمل الوطني الفلسطيني على مدى عقود. طبعاً إنه فشل ساهم فيه الاحتلال الإسرائيلي، لكن من أسبابه أيضاً هذا الجموح الذي تحكم بنشوة السلطة عند قادة الحركة الإسلامية التي نمت في سرعة على حساب «فتح» والأخطاء الهائلة التي ارتكبها قياديون فيها غرتهم مفاسد السلطة. نغصت إدارة «حماس» حياة الغزاويين بفرضها نمط حياة متشدداً دينياً عليهم في الشارع والأماكن العامة، فضلاً عن عجزها عن إعادة إعمار القطاع بعد الدمار الذي أحدثه الاحتلال في الحروب المتوالية. وما من شك في أن وقف السلطة الفلسطينية دفع رواتب موظفي حكومة الانقسام في القطاع قبل مدة كان عاملاً إضافياً ضاغطاً على «حماس» المأزومة، التي كانت تتلقى المال من الرئيس محمود عباس بموازاة استمرارها في سياساتها المنفردة التي تتحمل نتائجها رام الله.
هل من باب ضوء فُتح نتيجة هذه المصالحة؟ كثر يضعون أيديهم على قلوبهم لقلقهم من أن يخذلهم المشهد كالسابق. لكن الجديد هذه المرة أن مصر وضعت ثقلها أكثر من أي وقت لأن لها مصلحة حيوية فيها. ليست جدية القاهرة معزولة عن الصراع العربي والإقليمي الدائر منذ سنوات بين القاهرة وبين تحالف أنقرة- الدوحة، بعد إطاحة حكم محمد مرسي، والذي تصاعد أخيراً بالتدابير المتخذة من مصر والسعودية والإمارات والبحرين حيال قطر. وهي جدية ليست بعيدة من المواجهة التي تخوضها القاهرة مع تنظيمات الإرهاب «الداعشي» وذلك المتفرع من تنظيم «الإخوان المسلمين»، سواء في سيناء أم في الداخل. فتركيا وقطر حاولتا تعويض خسارة حكم «الإخوان» في مصر بدعم حكم «حماس» في غزة. وبذلتا جهوداً مع إسرائيل كي تخفف الضغط على القطاع، وهذا ما يفسر، في المقابل، وقف إطلاق الصواريخ منه لمدة طويلة. لكن أزمة الدول الأربع مع قطر وتنامي الهجمات على الجيش المصري والشرطة، في سيناء ومنها، شكلا حافزاً لدى القاهرة لإعطاء الأولوية للمصالحة، خصوصاً أن من أسباب التشدد المصري تجاه قطر اتهاماتها للأخيرة بأنها ما زالت تمول المجموعات التي تشن هذه الهجمات.
يحقق الانقلاب الذي أحدثته القاهرة في غزة هدفين: مساعدة «حماس» لها في مواجهة المجموعات الإرهابية في سيناء والتي تستغل الأنفاق في تهريب السلاح وفي تأمين البنية التحتية لعملياتها، وتحجيم الدور القطري في كل من غزة وسيناء، على رغم أنه ضعف نتيجة تراجع التمويل الشهري للحركة.
من الطبيعي أن تكون إسرائيل المتضرر الأول من المصالحة لأنها تعزز الموقع التفاوضي الفلسطيني، من دون إغفال انزعاج إيران وترقب ما ستفعله لإفشالها. ولن تتوقف شروط نتانياهو عند المطالبة بحل الجناح العسكري لـ «حماس». وستبتدع تل أبيب ما تستطيع لإفشالها، مع أن الحركة أحدثت تحولاً في أيار (مايو) الماضي عبر خريطة الطريق التي أعلنتها معتبرة أنها «لا تخوض صراعاً ضد اليهود لكونهم يهوداً»، وأن «إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، عاصمتها القدس، على خطوط 4 حزيران (يونيو) 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة».
لن تقود المصالحة إلى تنازلات إسرائيلية، على رغم قول راعيها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إن «هناك فرصة للسلام». ومسعى صهر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، جاريد كوشنير، المكلف بالسلام لصداقته الحميمة والعائلية مع نتانياهو، لم يجد ما يقوله لأبي مازن سوى أن عبارة «الاحتلال الإسرائيلي» هي من الماضي.
صمود المصالحة إنجاز، لأنها الطريق إلى إعادة بناء المؤسسات الفلسطينية الهشة، للصمود، ريثما يأتي زمن دولي يتيح السلام.