على مدرج مطار في موسكو أواخر آب (أغسطس) 2023، كان زعيم “فاغنر” يفغيني بريغوجين ينتظر على متن طائرته حتى انتهاء فحص السلامة قبل أن تتمكن من الإقلاع. كان بريغوجين متوجهاً إلى منزله في سان بطرسبرغ ومعه تسعة آخرون. خلال التأخير، لم يلاحظ أحد داخل المقصورة العبوة الناسفة الصغيرة التي وُضعت خلسة تحت جناح الطائرة.
عندما أقلعت الطائرة أخيراً، ارتفعت لمدة 30 دقيقة تقريباً إلى 28000 قدم، قبل أن ينفجر جناحها، ما أدى إلى سقوطها على الأرض.
بهذه المقدّمة كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” بناءً على مقابلات مع عدد من المسؤولين الأمنيّين في الغرب وروسيا، أنّ اليد اليمنى للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، سكرتير مجلس الأمن الروسيّ نيكولاي باتروشيف، هو من خطّط للتخلّص من زعيم “فاغنر”. جاء ذلك على خلفية التمرّد الذي قاده الأخير في حزيران (يونيو) 2023.
كتبت الصحيفة أنّ إعداد عملية اغتيال أمير الحرب استغرقت شهرين، ووافق عليها أقدم حليف لبوتين، وهو جاسوس سابق يدعى نيكولاي باتروشيف، بحسب مسؤولي استخبارات غربيين وضابط استخبارات روسي سابق.
نفى الكرملين تورطه في مقتل بريغوجين، وقال إنّ قنبلة يدوية انفجرت على متن الطائرة.
بعد ساعات من الحادث، سأل أحد الأوروبيين المشاركين في جمع المعلومات الاستخبارية والذي حافظ على قناة اتصال خلفية مع الكرملين وشاهد أخبار الحادث، أحد المسؤولين هناك عما حدث.
وردّ مسؤول الكرملين بدون تردد قائلاً: “كان لا بد من إزالته”.
تحذيرات طويلة… “تتسبّب بمشكلة لنفسك”
كان باتروشيف قد حذّر بوتين لفترة طويلة من أنّ اعتماد موسكو على “فاغنر” في أوكرانيا يمنح بريغوجين الكثير من النفوذ السياسي والعسكري الذي كان يهدد الكرملين تهديداً متزايداً.
بعد التمرّد، تدخل باتروشيف لدرء التحدي الأكبر حتى الآن لحكم بوتين، كما رأى أيضاً فرصة للقضاء على بريغوجين إلى الأبد.
في مقابلات مع وكالات استخبارات غربية، ومسؤولين أمنيين واستخباريين سابقين في الولايات المتحدة وروسيا، ومسؤولين سابقين في الكرملين، كشفت “وول ستريت جورنال” عن تفاصيل جديدة عن تمرد ومقتل أقوى أمراء الحرب في روسيا، والدور غير المعروف سابقاً لباتروشيف في إعادة تأكيد سلطة بوتين على روسيا غير مستقرة بشكل متزايد.
لقد بقي بوتين في السلطة من خلال بيروقراطية واسعة النطاق تحكّم بها باتروشيف الذي صعد إلى القمّة من خلال تفسير سياسات بوتين وتنفيذ أوامره.
ويرى باتروشيف (72 عاماً) أن روسيا تخوض صراعاً مع الولايات المتحدة التي قال إنها تريد سرقة النفط والمعادن الروسية.
وقال لصحيفة “إزفستيا” الروسية إنّ الولايات المتحدة تخطط للاستيلاء على روسيا لأنّ الانفجار البركاني الهائل في وايومنغ قد يجعلها غير صالحة للسكن قريباً.
إنّ كلمات بريغوجين على وسائل التواصل الاجتماعي ضد رئيس الأركان العامة للقوات الروسيّة الجنرال فاليري غيراسيموف ووزير الدفاع سيرغي شويغو، معطوفة على التقدم الناجح لقواته في شرق أوكرانيا، لفتت الانتباه إليه في موسكو وأكسبته أعداءً أقوياء، بمن فيهم باتروشيف.
قال مسؤول سابق في الكرملين عمل في بعض الأحيان مع كل من بوتين وباتروشيف: “أخبر الجميع بوتين أنه من الخطأ أن يكون هناك جيش موازٍ”. وأضاف: “عندما يبصق في وجه القيادة العسكرية كل يوم، فإنك تتسبب بمشكلة لنفسك”.
بدأ باتروشيف بتحذير بوتين من بريغوجين في صيف 2022. لكن التحذيرات لم تلق آذاناً صاغية بينما أحرزت “فاغنر” تقدماً في ساحة المعركة.
الحدث المفصليّ… في تشرين الأوّل
تغيّر ذلك عندما اتصل بريغوجين ببوتين واشتكى بوقاحة من نقص الإمدادات لديه، كما قال ضابط المخابرات الروسي السابق الذي يحتفظ بعلاقات مع أشخاص مقربين من بوتين وباتروشيف. احتاج بريغوجين إلى البنادق والرصاص وكان رجاله يموتون بأعداد كبيرة.
وقال المسؤول السابق في الكرملين إنّ المكالمة حدثت في تشرين الأول (أكتوبر) مع آخرين في المكتب، بمن فيهم باتروشيف الذي سمع بريغوجين يوبّخ الرئيس. وفي وقت لاحق، استخدم باتروشيف المكالمة كسبب لدفع بوتين إلى إبعاد نفسه منه: فقد أصبح أمير الحرب خطيراً، بدون احترام لسلطة الكرملين.
وبحلول كانون الأول (ديسمبر)، كان من الواضح أن باتروشيف قد فاز. وحتى عندما انتقد بريغوجين علناً الجيش وافتقاره إلى الإمدادات، تجاهله بوتين. لم يردّ على المكالمات. بحلول أوائل حزيران (يونيو)، أعلن الكرملين فعلياً عن خطط لتفكيك مجموعة فاغنر كقوة مقاتلة في أوكرانيا وأمر مقاتليها بتسجيل أنفسهم لدى وزارة الدفاع الروسية.
طلب المساعدة الأجنبية
أضافت الصحيفة أنّه في 23 حزيران، سار بريغوجين على رأس 25 ألف مقاتل نحو مدينة روستوف أون دون الجنوبية للسيطرة على مقر المنطقة العسكرية الجنوبية للقوات المسلحة الروسية. وكانت الخطة، في ما سمّاه “مسيرة العدالة”، هي مواجهة غيراسيموف وشويغو اللذين كانا هناك لحضور اجتماعات لكنّهما هربا قبل وصول بريغوجين. وأرسل بريغوجين طابوراً آخر من الدبابات والجنود باتجاه موسكو.
ومع وجود بوتين في فيلا خارج المدينة، تولى باتروشيف زمام الأمور، وقام بتنظيم موجة من المكالمات الهاتفية لإقناع بريغوجين بالتوقف، وفقاً لتقييمات المخابرات الغربية وضابط المخابرات الروسي السابق.
طلب باتروشيف من الضباط المتعاطفين مع بريغوجين محاولة الوصول إليه. ولم يتم الرد على خمس مكالمات لبريغوجين من الكرملين. كما بحث عن وسطاء، وتم إجراء اتصالات مع حكومتي كازاخستان وبيلاروسيا، وكلتاهما عضو في تحالف عسكري تقوده روسيا ويتشكل من دول سوفياتية سابقة.
كان الاتصال بكازاخستان تأميناً ضد أسوأ السيناريوهات. ففي السنة السابقة، أرسلت روسيا قواتها لاستعادة النظام بعد اندلاع أعمال شغب عنيفة. وقال مسؤول مخابرات غربي وضابط المخابرات الروسي السابق إنّ الأمل الآن هو أن ترد كازاخستان الجميل إذا لم يتمكن الجيش الروسي من صد الجيش المارق. لكن الرئيس قاسم جومارت توكاييف رفض ذلك، بعدما نأى بنفسه عن روسيا عقب غزو أوكرانيا.
في النهاية، قال رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشنكو عبر بيان عام إنه وافق على المساعدة، واتّصل ببريغوجين مرات عدة على مدار أكثر من ست ساعات ونقل الرسائل بين أمير الحرب وموسكو. في نهاية المطاف، قدم عرضاً ناقشه باتروشيف: إذا أوقف بريغوجين قواته، فسيتم السماح لرجاله بالذهاب إلى بيلاروسيا.
وقال مكتبه الصحافي في بيان للصحيفة نفسها إن لوكاشنكو أجرى جولات عدة من المحادثات مع بريغوجين وكذلك بوتين. وجاء في البيان أنّ “المحادثات حققت نجاحاً”.
من خلال ظهور تلفزيوني في وقت متأخر من الصباح، وصف بوتين بريغوجين وقيادة فاغنر بالخونة، ما ساعد في إقناعه بقبول العرض الذي تضمن الاحتفاظ بالسيطرة على عملياته الخارجية مثل تلك الموجودة في أفريقيا.
توقف مقاتلو بريغوجين الذين كانوا متجهين نحو موسكو وبدأ بعضهم بالسير نحو المعسكرات التي يُفترض أنها أُعدت لهم في بيلاروسيا. اختفى بريغوجين نفسه من وسائل التواصل الاجتماعي.
كان يعلم… رجل حيّ ميّت
خلال باقي أيام الصيف، ساد التوتر في موسكو. قلة في الكرملين كانت تعتقد أنّ بريغوجين سيفلت من العقاب على تمرد مسلح بدون أي عواقب. وسيثبت باتروشيف أنهم على حق.
بعد التمرد، لم يفعل الكرملين الكثير علناً لتقييد حياة بريغوجين. سافر الأخير إلى أفريقيا للاطمئنان على عملياته هناك. وقال ماكسيم شوغالي الذي عمل لدى بريغوجين في أحد مراكز الأبحاث، إنه سُمح له أيضاً بمواصلة العمل في سانت بطرسبرغ وفي جميع أنحاء روسيا. لكنه قال إن بريغوجين كان حذراً.
وقال شوغالي: “كان يعلم أن لديه أعداء وأن شيئاً ما يمكن أن يحدث له، ولكن بالنسبة إليه كان ملتزماً بالاتفاق”.
وقال رئيس سابق لإحدى محطات “سي آي إي” رولف موات لارسون: “يمكنك أن ترى ما هي خطة بوتين: إبقاء الرجل الميت يمشي حتى يتمكنوا من مواصلة معرفة ما حدث”، ما يعني أنّ الكرملين كان يبحث عن المتعاونين مع بريغوجين.
وقال ضابط المخابرات الروسي السابق إنه في بداية آب، بينما كان معظم سكان موسكو في إجازة، أصدر باتروشيف في مكتبه وسط موسكو أوامر لمساعده بالمضي قدماً في تشكيل عملية للتخلص من بريغوجين.
وقالت وكالات استخبارات غربية إن بوتين اطّلع على الخطط في وقت لاحق ولم يعترض.
بعد أسابيع عدة، وفي أعقاب جولته عبر أفريقيا، كان بريغوجين ينتظر في مطار موسكو بينما أنهى مفتشو السلامة فحص الطائرة. وقال مسؤولون في المخابرات الغربية إنّه خلال هذا التأخير تمّ وضع قنبلة صغيرة تحت الجناح.
أقلعت الطائرة بعد الساعة الخامسة مساءً ووصلت إلى ارتفاع 28000 قدم (نحو 8.5 كلم). لكن بعد أكثر من نصف ساعة، فقدت الطائرة ارتفاعها بسرعة وتحطمت بالقرب من قرية كوجنكينو. تظهر مقاطع فيديو لشهود أنه بعد الانفجار، سقطت طائرة ذات جناح منفصل من السماء.