مقدمة:
لا تُخطئي الخطأ الثالث يا أمريكا: الحصار جريمة ثالثة، لا تُغتفر .
ما يدفعنا لكتابة هذه المقالة ليس مجرد التخوف من تكرار كارثة، بل اليقين بأن التاريخ إذا أعاد نفسه بنفس الأدوات، وبنفس النهج السياسي، فإن النتائج لن تكون مجرد أخطاء… بل جرائم موصوفة لن تُغتَفر .
وإننا نُوجّه هذه الرسالة بصراحة ووضوح إلى واشنطن:مفادها ان الشعب العراقي ليس عدوك.بل عدوك الحقيقي هو من جئتِ بهم إلى السلطة، ومن تحالفتِ معهم من دول الجوار لتدمير العراق، والذين تغصين اليوم بهم . بعد أن تمددوا خارج سيطرتك وارتدوا عليك. هؤلاء من أوصلوا البلاد إلى هذا الانهيار، لا شعبها الذي ما زال يدفع ثمن الخطيئة الأولى حتى اليوم .
واليوم، تتحدث واشنطن عن احتمال فرض عقوبات أو أشكال من الحصار على العراق، في إطار تصعيدها السياسي مع الحكومة الحالية أو بعض الجماعات المؤثرة. ولكن قبل أن تتورط الولايات المتحدة بخطوة كهذه، عليها أن تتوقف قليلًا وتقرأ سجلها العراقي، وتتعامل معه بضمير الدول العاقلة لا بغرور القوى العظمى .
فثمة ثلاثة أخطاء قاتلة ارتكبتها الولايات المتحدة في العراق خلال العقود الأخيرة، اثنان منها قد وقعَا بالفعل، والثالث تُوشك أن ترتكبه. وإذا حدث، فلن تكون نتائجه كسابقيه… بل أبعد من قدرة أحد على السيطرة أو الاحتواء .
الخطأ الأول: حين اطاحت بالدولة وليس النظام فحسب
في عام 2003، رفعت أميركا شعارات “الخلاص من الدكتاتورية”، لكنها في الواقع لم تُسقط النظام وحده، بل أسقطت الدولة العراقية بكامل مؤسساتها العسكرية والأمنية والمدنية، في واحدة من أكثر العمليات العسكرية والسياسية جهلًا ببنية المجتمعات والدول . فحلت الكارثة، وتحولت دولة عريقة إلى ساحة تتجاذبها النزاعات والانهيارات، وتمكّنت الفوضى من مفاصلها، ليس بفعل السلاح فقط، بل بفعل قرارات متهورة جعلت العراق أرضًا بلا سقف ولا جذور .
الخطأ الثاني: تسليم بغداد لعدوها الأزلي
وبعد أن أطاحت الدولة، لم تُقدم أميركا نموذجًا وطنيًا مستقلاً لبناء عراقٍ جديد، بل سلّمت بغداد لطهران على طبق من فوضى ودماء. فتسللت إيران عبر كل المؤسسات، ونصّبت وكلاءها، وسرعان ما أصبحت الحاكم الفعلي للعراق من خلف ستار الديمقراطية الشكلية. هذا الخطأ، وإن أُنجز لأسباب سياسية أو تفاهمات إقليمية آنذاك، إلا أنه أسّس لواقع يُعد أخطر من كل الاحتلالات: واقع الوصاية الدائمة، والانقسام العميق، والموت البطيء للهوية الوطنية العراقية المستقلة .
الخطأ الثالث – إذا وقع: الحصار… جريمة ما بعد الجريمة
الآن، وبينما تلوّح الإدارة الأميركية بسيناريو العقوبات أو الحصار على العراق، علينا أن نقولها بصراحة وبلا مواربة: هذه ستكون الجريمة الثالثة والأكثر فتكًا، لا بالنظام السياسي، بل بالشعب العراقي المسحوق أصلًا تحت وطأة الفساد والتبعية والفقر .
من يظن أن حصارًا اقتصاديًا أو ماليًا سيضغط على الفصائل أو النخب السياسية المترهّلة، فهو واهم. فهذه الطبقة تمتلك من أموال الفساد ما يكفي لإدامة وجودها عشرات السنين. أما من سيدفع الثمن فهم العراقيون البسطاء، الذين لا ذنب لهم إلا أنهم وُلدوا في وطن سلِبه الجميع وتركته القوى الدولية كالغنيمة يتقاسمها الآخرون .
الحصار: خدمة مجانية لإيران ودول الجوار
أي حصار ستفرضه أميركا على العراق سيكون بمثابة هدية لإيران ودول الجوار التي ستملأ الفراغ، وستمد يدها للشعب المغلوب على أمره بمظاهر “المساعدة” و”الاحتضان”، بينما هي تمعن في ابتزازه وتحويله إلى سوق تابع أو ميليشيا عابرة للحدود.
وحينها، لن تكون أميركا قد “صحّحت المسار”، بل أنهت ما تبقى من أمل عراقي في الاستقلال والانعتاق، وكرّست بيدها سيطرة خصومها على ما تبقى من مقدرات هذه البلاد المنهكة .
العراق يستحق الإنصاف لا العقاب
من يتحدث باسم العراق اليوم يجب أن يرفع صوته، لا ليهادن واشنطن ولا ليُعاديها، بل ليقول لها: كفى أخطاءً، وكفى عبثًا بمصير الشعب. العراق ليس مختبرًا لتجارب سياسية فاشلة، ولا حقل ألغام تُرمى فيه أدوات الضغط ثم يُترك للنزف .
وإن كانت هناك جدية في بناء علاقة متزنة مع العراق، فلتكن علاقة مع شعبه لا مع طبقته الفاسدة. ولتكن سياساتكم مع الشعب لا عليه.
وعليه، فإن على الولايات المتحدة أن تجد سبيلًا آخر غير الحصار، وأن تُدرك أن واجبها الأخلاقي والتاريخي والقانوني والانساني اليوم هو أن تُكفّر عن جريمتها الأولى حين أسقطت الدولة، والثانية حين سلّمت العراق لعدوه الأزلي، لا أن ترتكب جريمة ثالثة تكون القاضية.
بل يجب عليها، إن أرادت إنقاذ ما يمكن إنقاذه، أن تسعى بكل جدية إلى إنقاذ العراقيين، لا محاصرتهم، وأن تعمل على:
اجتثاث من جاءت بهم من أدوات الفساد والفشل والطائفية .
وتحرير العراق من الهيمنة الإيرانية والسلاح المنفلت.
إعادة العراق إلى دوره الإقليمي الطبيعي والتاريخي، كدولة فاعلة، مستقلة، ذات سيادة، ومصدر استقرار للمنطقة وليس مصدر قلق كما هو عليه اليوم .
ذلك وحده هو المسار الصحيح. وما عداه… فسيكون بمثابة انتحار استراتيجي جديد، لن يكون الشعب العراقي ضحيته الوحيدة،
أما إذا أصريتم على ارتكاب الخطأ الثالث، فاعلموا أن الشعوب لا تموت، لكنها حين تنهض، لا تغفر .