مقالات

يهدر الإنسان سعادته في البحث عنها

 
 
سعود بن علي الحارثي
 
لم يختلف الناس على شيء كما اختلفوا على مصطلح السعادة من حيث دقة المعنى، فالفلاسفة والمفكرون والمثقفون وعلماء الدين وحتى البسطاء من البشر جميعهم لم يتفقوا في كل حواراتهم وسجالاتهم وكتاباتهم على وصف شامل ودقيق يعطي فهما عاما ومشتركا للسعادة، ويساعد على استيعاب حقيقتها وتصور تأثيراتها ونتائجها وحدود علاقتها وارتباطها بالإنسان والاستدلال إلى الطرق الصحيحة لبلوغها، وهو أمر طبيعي يعكس اختلاف الرؤية والثقافة والتوجه والسلوك والشعور العام تجاه العناصر والمفردات والممارسات المرتبطة بالحياة عامة والتي يستحيل اتفاق الناس عليها، لذا لم تلتق الرؤية الإنسانية حول صياغة مفهوم دقيق يعكس حقيقة السعادة، ويضبط الحدود اللغوية لمعناها ومضمونها، والاتفاق على قياسات خاصة تأخذ في الاعتبار أسسا ومعايير تحدد أو ترصد وضع الإنسان وظرفه ومشاعره وبيئته التي يمكن أن نحكم على أساسها فيما إذا كان في حال من السعادة أو الشقاء … إنه مصطلح يتلون بتلون الموقف والرؤية ومجرى الحديث واختلاف الثقافة والفلسفة ومرتبط بالانتماءات العقدية والفكرية والدينية وما يؤمن به كل امرئ من مبادئ ومثل وتفسيرات وقناعات مرتبطة بمفهوم السعادة، فما هي السعادة إذن؟ وهل يمكن للإنسان أن يلمسها ويشعر بها؟ ما هو تعريفها الحقيقي؟ وهل تكتمل السعادة في الحياة الدنيا أم أن النواقص سمة من سماتها؟ من أين تبدأ السعادة وكيف تنتهي وما هي العوامل والأسباب التي تنقل إنسان ما إلى مستوى عال من السعادة؟ هل بيد الإنسان مفاتيح التحكم بالسعادة وما هي الحدود العليا والدنيا التي تتأرجح بينهما؟ من هو السعيد ومن هو الشقي؟ وكيف نحكم على فلان من الناس بأنه سعيد وعلى الآخر بأنه شقي؟ ما هي مقاييس السعادة ومفاتيحها وأدواتها وطرقها وهل هي غاية دنيوية أم وسيلة؟ وهل تتطلب السعادة الأخروية التضحية بها في الدنيا، بمعنى أوسع هل الأولى مرتبطة بالثانية أم منفصلة عنها أم أن الفصل في ذلك مرتبط في حقيقته بمفهوم السعادة ومعناها لدى كل منا؟، هل السليم من الأسقام والعلل نفسية، سلوكية، عضوية هو السعيد أم الغني الذي يملك الأموال الوافرة والاستثمارات الواسعة، أم هو الناجح في عمله الذي تلاحقه الأضواء ويجري وراءه الصحفيون ويتودد إليه ويتحدث عنه الجميع وتظهر صوره في وسائل الإعلام، أم أن السعادة توجد أينما وجد الاستقرار الأسري والدفء العائلي، زوجة صالحة وأبناء يثيرون الصخب والفوضى والبهجة في أنحاء البيت؟ هل القناعة بالقليل والرضا بالموجود والوعي بحقيقة الحياة والحكمة من خلق الإنسان وسعة العلم والثقافة هي مفتاح السعادة وسرها ؟ هل اجتماع تلك الأسباب يعني اكتمال أوجه السعادة وبلوغها الدرجة الرفيعة، وأنى لذلك أن يتحقق مع العلم بحقيقة تضاد بعضها واستحالة أن تلتقي في ذات المرحلة الزمنية وفي نفس المكان وعلى قلب واحد، وحتى إن اجتمعت فما هي إلا لحظات عابرة سرعان ما تتلاشى وتخفت وتفترق، فهل يعني أن فقد إحداها أو بعضها سوف ينتقص من قيمة السعادة؟ هل تعد طبيعة الإنسان وسماته الشخصية ومستواه التعليمي… مصدرا لسعادته وشقائه؟ أي من حيث قدرة الشخصية على التحمل والصبر وأسلوب تقبلها وتلقيها للمشاكل والصعاب والرزايا والصدمات ونجاحها في التأقلم مع الواقع من عدمه والتخلص من القلق والخوف والشكوك، باعتبارها عوامل أساسية لإفضاء أجواء السعادة أو الشقاء …؟ هل السعادة كنز أسطوري خرافي ظل الإنسان يبحث عنه سنوات عمره فلم يفلح في الحصول عليه؟ هل تنام السعادة هانئة راضية في أحضان الفقير الواقعي المتحرر من الهموم والأفكار والأسئلة العميقة والطموحات البعيدة والتطلعات الكبيرة، ذاك الذي ما أن يضع رأسه على حجرة حتى يدخل في سبات عميق، وتستحيل على الغني الشغف بجمع الأموال المتطلع لنموها حد الاستعباد لبريقها، والمنشغل بالأسئلة الكبيرة والقلق المتوجس من الحياة الذي لا يواتيه النوم طبيعيا فيلجأ إلى كبسولة خاصة تهديه نوما لا طبيعيا؟ أو لسنا نبدد الساعات والعمر والصحة والجهد والشباب في البحث عن سعادة مجهولة متعامين أو مضحين بسعادة من نوع آخر تضيع من بين أيدينا دون أن نهنأ بها مع أنها متوفرة في حياتنا…؟.
دائما ما تكون السعادة مصدر شقاء للإنسان في سعيه الدؤوب للحصول عليها وهي ما تزال في مجاهل زمن قادم، أو محاولة الاحتفاظ بها، فهو إما أنه يبحث عنها في المكان الخطأ، أو أنه يفرط في سعادته المتوفرة طمعا في سعادة أعظم وأكبر فتضيع منه الأولى دون أن يحصل على الثانية، أو أن القدر يناكده ويراوغه مصوبا إليه طلقات تأخذ منه سعادته وتصعب عليه محاولات البحث عنها في مواقع ومجاهل أخرى، أو يحدث أنه يحول السعادة إلى شقاء بسبب أخطاء في التقدير أو في اتخاذ القرارات، أو اطلاق النفس في بحر الشهوات والجشع في جمع المال والتعلق بآمال زائفة … ولأن الإنسان لا يكتفي ولا يهنأ بما يملك، ويرغب في المزيد ولا نهاية لهذا المزيد، ولأنه كثيرا ما يهتم بالشكليات والقشور على حساب الجوهر والمضمون، ويحكم نفسه أهواءها ويستعجل الأمور قبل أوانها، ويضعف أمام المادة والملذات، ويرتكب الأخطاء دون أن يستفيد منها في التصحيح والإصلاح، ويصل به الأمر أحيانا درجة ظلم الناس والتطاول على الحقوق وسفك الدماء من أجل تحقيق مصلحته الخاصة، فهو يهدر بهذه الثقافة المقيتة والسلوك الشاذ والطريق المنحرف سعادته في وقت يعتقد فيه أنه يحقق هذه السعادة أو أنه في طريقه الصحيح إليها، ينتظر الإنسان لحظة التخرج ليكون سعيدا أو أكثر سعادة وراحة، أو اللحظة التي سيصبح فيها غنيا أو لحظة شغل وظيفة رفيعة، أو لحظة الدخول إلى عش الزوجية أو لحظة الانتهاء من المعاناة التي يشعر بها ومعالجة مشاكله… والحقيقة تغاير هذا التفكير فليس من وقت أفضل من الآن للعيش بسعادة، فالسعادة لا يمكن انتظارها في عالم مليء بالتحديات والمجهولات، إذن فالاستمتاع باللحظة هي السعادة.