يومياتُ مُترجمةٍ في “المغرب العميق”!

1

زكية حادوش
في الأيام الأخيرة مررت بأماكن تقع على خريطة بلادنا لكنها تنتمي إلى زمن آخر، وربما إلى أرض خرافية تزخر بالعجائب. ورأيت فيما رأيته قرى خالية على عروشها كأنها أطلال حضارة غابرة. وقرى أخرى لا يعمل فيها سوى من تجاوزواْ مقتبل العمر منذ عقود، هم وهن من يزرعون ويحصدون ويربون الماشية ويحطبون في الجبال، ويمشون في الأسواق.
وصلتُ فيما وصلتُ إليه إلى مأوى سكورة، تؤدي إليه طريق لا تسع إلا سيارة واحدة إما طالعة أو نازلة. وإذا وجد السائق نفسه في وسط تلك “الطريق” العجيبة أمام سيارة أخرى لا يمكن له أن يرجع إلى الوراء ولا أن يسير أماما، ولا يمينا ولا يسارا. آنذاك أدركتُ معنى العبارة الشهيرة التي كان يرددها الوالد رحمه الله: “وقف حمار الشيخ في العقبة”. آنذاك فقط فهمتُ معنى السياحة في بلد الشمس والبحرين الاثنين والطرق التي لا توجد سوى في مخيلة مقدمي نشرات أخبار الخير والنماء (على وزن الرفاه والبنين) أو في جيوب أحدهم.
تعرفتُ فيما تعرفتُ على سكان قرويين أكثر تمدناً من سكان الحواضر، وعلى سكان “مدن” لا يمِتُّون إلى الحواضر بصلة، اللهم صلة التقسيم الترابي الذي ينسبهم إلى المجال الحضري على الورق. البنايات الوحيدة الدالة على أن تلك مدينة هي من مخلفات الاستعمار، أما ما بُنِيَ حديثا فلا يصلح من الناحية الجمالية إلا لتصوير أفلام الحروب والكوارث، ومن الناحية العملية إلا لخزن اللحم في الشتاء و”تَقْدِيدِه” (أو صنع اللحم المجفف) في الصيف، لأن تلك “المنازل” المشيدة بالإسمنت والآجُر وما يسمى بهتاناً بالرخام لا تتوفر فيها شروط سكن البشر، لأنها كالثلاجة في البرد وكالفرن في الحر، عكس المساكن القروية المشيدة بالحجر والطين والتبن والخشب. لم أُعاين البرد القارس هناك فقط بل أحسستُ به يجمد أعضائي ويمنعني من القيام بأي شيء، حتى القراءة والكتابة تصبح شبه مستحيلة بأصابع متصلبة، لذلك كنت أنام على غير العادة في الثامنة مساء. ها قد فهمتم المغزى من منح رخص بناء تلك الثلاجات-الأفران العجيبة، ألا وهو النوم ثم النوم العميق!
حتى زملائي مواطنو الكيبيك، معقل الثلوج والصقيع، تجمدواْ من قسوة البرد في بلادنا السعيدة، وتوصلواْ إلى تفسير واحد لعيش المغاربة في تلك الظروف: إنهم مازوشيون! فجأة تبدتِ الحقيقة، لا يمكن أن نكون سوى مازوشيين، ولكن أيضا ساديين، وزِدْ على ذلك اضطرابات نفسية شتى. لذلك ارتأتْ “حكمة” المخزن أن توكل أمرنا إلى رئيس حكومة طبيب نفساني!
عَوْداً على بدءٍ، صادفتُ فيما صادفتُهُ كلاباً وحشية تعيش في الغابة. للوهلة الأولى تفاجأتُ لأني ما اعتقدتُ أن للكلاب غير المدجنة وجوداً في مغرب هذا الزمن. قلتُ: لا بد أنني وصلتُ إلى مملكة الكلاب الضائعة. ثم رأيتُ كيف كانت تقبع رافعة رأسها وتنظر إلى العابرين من البشر بكبرياء، لا تنتظر منهم قوتا ولا عطفا ولا زيارة إلى البيطري قصد التلقيح أو تحديد النسل. في لحظة ما بدأ المطر يهطل، لكن الكلاب لم تهرع للاحتماء بسقف البشر المجاور. نظرتُ إلى السماء وتحركتُ بهدوء إلى داخل الغابة، حيث جمهورية الكلاب الحرة!

التعليقات معطلة.