إستراتيجية طهران الجديدة في المنطقة عمادها استغلال قضية فلسطين رافعة لاستمرار نفوذها
طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني
وضعت إيران خططها الجديدة موضع التنفيذ لحظة إطلاق الصواريخ من لبنان وربما قبلها بقليل (أ ف ب)
الفصل الجديد من الإستراتيجية الإيرانية لحفظ وتعزيز مواقعها المكتسبة على مدى العقود الماضية بغرب آسيا بدأ وكتبت سطوره الأولى في بساتين الموز التابعة لبلدة القليلة اللبنانية الهادئة. نقول فصلاً جديداً لأن فصلاً قديماً سينتهي حكماً بمقتضى نصوص اتفاق بكين القاضية بالامتناع “عن التدخل في شؤون الدول الأخرى”، هذا المبدأ سيفرض على إيران الامتناع رسمياً عن مد يدها إلى دواخل البلدان العربية، لكنها ستستعيض عنه بعنوان أكثر ربحية يسهل تبريره، وهو دعم المناضلين ضد الاحتلال الإسرائيلي.
تسهل مهمة إيران في هذا المجال الحكومة الإسرائيلية الراهنة وسياسات من سبقها من الحكام الذين يستمرون في فرض الاحتلال ونظام التمييز العنصري على الشعب الفلسطيني، ليجعلوه الشعب الوحيد في العالم الذي لم يحظ بدولته المستقلة منذ نهاية نظام المستعمرات والإلحاق.
الغطاء الفلسطيني هو ما سيوفر للإستراتيجية الإيرانية الإقليمية الجديدة تبريرات حركتها ويجعل من أدوات إيران في الإقليم قوى حية للتحرر الوطني ومواجهة الاستعمار، وهو الذي سيسمح لها بالقول إنها باستعادة علاقاتها الطبيعية مع دول الخليج العربي ستلتزم مقتضيات اتفاق بكين لتحاول الذهاب بعيداً في اختراق العالم العربي من الباب الذي يشغله، القضية الفلسطينية.
تفعل إيران ذلك لأن فلسطين هي الذريعة الوحيدة المتبقية لديها بعد الاتفاق على استعادة العلاقات الطبيعية مع السعودية ودول الخليج الأخرى. فالاتفاق أنهى أعواماً من التوتر والصدام ومهد الطريق أمام حياة سوية لدول وشعوب المنطقة تقوم على التبادل التجاري والثقافي والدبلوماسي، ويبعد شبح الصدام والاحتراب ويضمن حل الاختلافات بالتعاون والتعاون، ونصه على عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى يفترض تحول الميليشيات التي بنتها ومولتها إيران طوال عقود إلى جزء من النسيج الوطني لبلدانها، فتنتظم في حياة هذه البلدان وتخضع لقوانينها ومؤسساتها ولا تواصل سلوكها كميليشيات عابرة للحدود في خدمة السياسة المذهبية التوسعية الإيرانية.
مأزق الالتزام الإيراني يتبدى في هذه النقطة بالذات، فالبلد الذي صرف جهوده لبناء التنظيمات والميليشيات الإلهية والزينبية والفاطمية والحيدرية سيبحث عن سبب لاستمرارها كاستثمارات لا شيء لديه غيرها في المشرق العربي، وليس أجدى من التوظيف الفلسطيني لحفظ جدواها.
ثلاثة دوافع عميقة تقف وراء هذا التوظيف، الأول هو الالتفاف على موجبات التهدئة في المنطقة وعلى مقتضيات عدم التدخل في شؤون الآخرين استناداً إلى طبيعة النظام الإيراني القائم على مبدأ تصدير “الثورة”.
أما الدافع الثاني، فهو الدخول بقوة في العنوان الوطني الفلسطيني ورمزيته العربية والإسلامية لتبرير أسباب قيام النظام الإيراني نفسه، وهو الذي جعل منذ قيامه، تبنيه قضية فلسطين نوعاً من الرد على العلاقات الوطيدة بين نظام الشاه وإسرائيل.
والدافع الثالث هو الاستفادة من الموارد التنظيمية المتاحة لمهاجمة إسرائيل بالوكالة، مما يعيد الاعتبار إلى النظام الإيراني الذي يتعرض على أرضه وفي سوريا لهجمات إسرائيلية مميتة، ويفسح أمامه المجال للدخول في سوق التفاوض حول علاقاته مع الغرب وأدواره في المنطقة.
جرت ترجمة هذا الفصل الجديد من الإستراتيجية الإيرانية المستجدة على ثلاثة مستويات مترابطة، الأول التحضيرات المركزية في طهران لجعل “يوم القدس” هذا العام مناسبة مميزة على مستوى الصراع القائم على المدينة المقدسة، وتوجيه قيادات المنظمات المرتبطة إلى الإشادة بحكمة الخميني وتحويل يوم القدس إلى “يوم الإمام الخميني” تتلى فيه الخطابات المشيدة بحكمة المرشد علي خامنئي.
المستوى الثاني الإعلان عن غرفة عمليات مشتركة لجميع المنظمات التي تقودها إيران باسم فلسطين في إطار ما سمته “وحدة الساحات”، أي جعل الأرض العربية المحيطة بإسرائيل إضافة إلى قطاع غزة التي لإيران حضور أو نفوذ فيه، جبهة مفتوحة معها بقيادة طهران، من دون إخفاء السعي إلى جعل الضفة بعد غزة قاعدة للمقاومة المرتبطة بالمنهج الإيراني، على حساب حركة “فتح” والسلطة الفلسطينية المترنحة، ولذلك اختارت إيران ليومها المقدسي هذا العام شعار “الضفة درع القدس”.
المستوى الثالث هو في الترجمة العملية لعمل غرفة العمليات المذكورة، لقد كانت باكورة هذه الترجمة في قصف إسرائيل من لبنان بالصواريخ في استعادة لمشهد بائس عاشه لبنان منذ نصف قرن وأكسبه دماراً وإفقاراً لا مخرج منهما ولم يسهم في تحرير شبر من فلسطين.
تكرر إيران في سلوكها هذا استخدام القدس وفلسطين في معارك الأنظمة العربية لتبرير وجودها وتوطيد هيمنتها على شعوبها. النظام العراقي السابق استثمر في القضية عبر إنشائه جبهة التحرير الفلسطينية الخاصة به قبل أن يوظف مجموعة أبو نضال المشبوهة في عملياته، والنظام السوري كانت له منظمة “الصاعقة” لتحرير فلسطين إضافة إلى جيش التحرير الفلسطيني ونظام القذافي وزع خدماته على الفصائل مقترحاً عليها قيام دولة باسم “إسراطين”. اليوم يبدو أن إيران تقلد تلك الأنظمة في إنشاء تشكيلاتها وفي استخدام الأرض اللبنانية، كما فعل أسلافها، منصة لتبادل الرسائل.
وضعت إيران خططها الجديدة موضع التنفيذ لحظة إطلاق الصواريخ من لبنان وربما قبلها بقليل عندما فجر شاب آت من لبنان عبوة داخل إسرائيل في مجدو.
التلفزيون الإيراني أعلن تبنيه عملية القليلة، وبعده كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن أن إطلاق الصواريخ تم بالتنسيق بين “الحرس الثوري” الإيراني و”حزب الله” و”حماس”. وقالت إن “قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني عقد لقاءات سرية في المنطقة من ضمنها لقاءات مطلع شهر رمضان بسوريا مع مسؤولين في الفصائل الفلسطينية لتنسيق قصف محتمل على إسرائيل”.
وتابعت أنه في الثالث من أبريل (نيسان) وصل مستشارو الحرس الثوري إلى بيروت (ذكرت مصادر أن قاآني على رأسهم) للتخطيط لشن الهجوم مشدداً على ضرورة “قصف أهداف إسرائيلية رداً على هجمات إسرائيل في سوريا، وكان المسؤولون الأميركيون في حال تأهب” بعد معلومات عن اجتماعات المسؤول الإيراني وخططه.
في لبنان اجتمع قاآني بقيادة “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في السفارة الإيرانية، وبالتزامن جرى إطلاق الصواريخ “بالتنسيق بينه وحسن نصرالله وإسماعيل هنية ونائبه صالح العاروري”، وفق الصحيفة الأميركية.
تم احتواء التصعيد العسكري في وقته، لكن الاستثمار السياسي الإيراني سيظهر لاحقاً في خطابات يوم القدس. لقد كان ذلك اليوم يوماً إيرانياً بامتياز، احتفلت به إيران عبر مسيرات موالية للنظام ونظمت الفصائل الموالية لها مهرجانات خطابية للإشادة بدعمها ووحدة الساحات تحت قيادتها. أما في فلسطين نفسها، فاحتفل عشرات الآلاف مثل عادتهم في رمضان وواصلوا مقاومتهم اليومية من دون إيلاء اهتمام كبير بمحاولة طهران استلحاقهم في إستراتيجيتها الجديدة.
لاحظت إسرائيل السلوك الإيراني الجديد. وفي آخر تقديرات استخباراتها العسكرية (جهاز أمان) أن “إيران انتقلت إلى حال خصومة إستراتيجية مباشرة مع إسرائيل وأن الزعيم الإيراني علي خامنئي أصدر توجيهاً مباشراً بزيادة الجهود من أجل مهاجمة أهداف إسرائيلية داخل الخط الأخضر والمناطق (المحتلة) وتعزيز دعم الفصائل الفلسطينية التي تنفذ” تلك العمليات.
مع ذلك تخلص الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية (أمان) إلى أن “احتمالات الحرب ليست مرتفعة لأن إيران وحزب الله وحماس ليسوا معنيين بالضرورة بمواجهة مباشرة وشاملة مع إسرائيل”.