يوم خارج التغطية

2

عبد الرحمن النقبي
   

 

لم تكن تلك المرة الأولى التي أزور فيها مصر، ولا الأولى التي أستخدم فيها هاتفي الذكي لإنجاز معاملة إلكترونية اعتدت عليها في حياتي اليومية، إذ أصبحت هذه التقنيات جزءًا أساسيًا من تفاصيل الحياة الحديثة، أعتمد عليها في إدارة شؤوني، وإنهاء معاملاتي، ومتابعة عملي، والتواصل مع الآخرين، وكل ذلك ضمن سلاسة رقمية نادرًا ما نشعر بغيابها أو نتهيأ لاحتمال انقطاعها. في ظهيرة هادئة من أيام القاهرة، وبينما كنت على وشك إتمام معاملة بسيطة على هاتفي، بدأ الاتصال يضعف تدريجيًا، إذ لاحظت تباطؤًا في تحميل البيانات ثم توقفًا تامًا، ولم أكن أظن حينها أن الأمر يتجاوز خللاً عابرًا في الشبكة، لكن سرعان ما اتضح أن المشكلة عامة، إذ لم يمضِ وقت طويل حتى اكتشفنا في المنزل أن الاتصال قد انقطع عن الجميع، فلا هاتف يعمل، ولا إنترنت متاح، ولا رسالة تصل أو تُستقبل، وكأن المدينة – بكل ضجيجها وحيويتها – قد دخلت فجأة في حالة صمت رقمي شامل.

ولم يتأخر الخبر كثيرًا، إذ تبيّن أن السبب يعود إلى حريق شبّ في أحد المباني الرئيسية لشبكة الاتصالات في منطقة رمسيس، ما أدى إلى توقف خدمات الاتصالات والإنترنت في عدد من المناطق الحيوية في القاهرة، وتسبب في شلل مفاجئ للأنظمة التي تعتمد على الاتصال اللحظي، وعلى رأسها الدفع الإلكتروني والتعاملات البنكية والجهات الخدمية المختلفة. كانت لحظة تحمل في طياتها الكثير من الدروس، لا بسبب أثرها المباشر فقط، بل لأنها أعادت التذكير بأن أي منظومة تقنية – مهما بلغت من التقدم – تبقى عرضة للانقطاع، وتحتاج في كل حين إلى بدائل جاهزة وخطط طوارئ مدروسة تضمن استمرارية الخدمات، وتحول دون تحول العارض التقني إلى أزمة اجتماعية أو اقتصادية.

ورغم حجم الحدث وتعقيد آثاره، لا يسعني في هذا السياق إلا أن أعبّر عن تقديري الخالص للسلطات المصرية، التي أظهرت سرعة استجابة وكفاءة عالية في التعامل مع الموقف، بدءًا من احتواء الحريق وإخماده في وقت قياسي، مرورًا بإعادة تشغيل الخدمات تدريجيًا، وصولًا إلى طمأنة الجمهور ومتابعة الأوضاع لحظة بلحظة، وهو ما يعكس جاهزية ميدانية وتنظيمية تستحق الثناء، ويؤكد أن الأزمة، رغم مفاجأتها، وُوجهت بمهنية ومسؤولية واضحة من الجهات المعنية.

وفي خضم هذا المشهد، تبرز مشاهد فرعية لا تقل أهمية، لعل أبرزها أنني تمكنت – ولله الحمد – من شراء احتياجاتي الأساسية في ذلك اليوم فقط لأنني كنت أحتفظ ببعض المال نقدًا، وهي عادة قد يراها البعض تقليدية، لكنها كانت في تلك اللحظة فارقة، إذ تعطلت جميع أجهزة الدفع الإلكتروني، وتحولت المتاجر إلى أماكن مغلقة أمام من لا يحملون النقود الورقية، ما أعاد التذكير بأهمية وجود احتياطات بديلة – لا في مستوى الدولة فقط – بل على مستوى الأفراد أيضًا، ممن باتت حياتهم بأكملها تدور حول شاشات وهواتف ذكية لا تعمل خارج نطاق الشبكة.

وإذا كانت هذه التجربة قد وقعت في مصر، فإن مضمونها يتجاوز الحدود الجغرافية، فهي تنبيه لدول العالم كافة، بأن البنية التحتية الرقمية، وما يرتبط بها من اتصالات وشبكات، لم تعد شأناً فنياً ثانوياً، بل أصبحت جزءًا من منظومة الأمن القومي لأي دولة، ومسألة بالغة الحساسية لا تحتمل التهاون أو التأجيل، فخلل محدود في مركز رئيسي، كما رأينا، قد يُحدث ارتباكًا واسعًا، ويعطل شرايين الحياة العامة والاقتصاد والقطاعات الحيوية في وقت لا تتجاوز فيه الاستجابة الفعالة دقائق معدودة.

وما يدفع للتأمل أكثر، أن ما حدث في مصر ليس معزولًا عن السياق العالمي، ففي كندا مثلًا، شهدت البلاد في عام 2022 انقطاعًا واسع النطاق لخدمات الاتصالات والإنترنت بعد خلل تقني أصاب شبكة شركة “روجرز” العملاقة، الأمر الذي أدى إلى توقف عمليات الدفع، وتعطل عمل المستشفيات والبنوك، بل وشملت التأثيرات خدمات الطوارئ في بعض المناطق، ما أظهر هشاشة الاعتماد على مزوّد واحد دون وجود بنية احتياطية، حتى في واحدة من أكثر دول العالم استقرارًا وتطورًا. وكذلك في بريطانيا، حين تسبب كسر في كابل ألياف ضوئية تابع لشركة “BT” في ديسمبر 2020 في انقطاع الإنترنت عن آلاف المستخدمين في شمال إنجلترا، ليتبيّن أن حادثًا بسيطًا، يمكنه أن يُحدث اضطرابًا واسعًا إذا لم يكن هناك توزيع جغرافي ذكي للبنية التحتية أو نظام بديل جاهز للتفعيل الفوري.

نحن اليوم أمام واقعٍ جديد، مفاده أن كلما اتسع اعتمادنا على التكنولوجيا والأنظمة الذكية، ازدادت الحاجة إلى تحصينها، لا من باب الحذر وحده، بل من باب المسؤولية الوطنية، وهو ما تحرص عليه بلادي، دولة الإمارات، من خلال الاستثمار المكثف في مراكز البيانات، وتوزيع الشبكات، ووضع خطط تعافٍ مرنة ومدروسة، لضمان استمرارية الخدمات حتى في أقسى الظروف، إلا أن تجارب مثل التي مررت بها في القاهرة، لا بد أن تُستثمر كفرصة لمراجعة جاهزية الأنظمة في أي بلد، وتعزيز إدراك المجتمع بأهمية توفر بدائل ملموسة لا ترتبط بالكهرباء أو الاتصال الرقمي، بل تعتمد على الاستعداد المسبق والحلول العملية التي تضمن استمرار الحياة عند غياب التقنية.

إن ما حدث، في جوهره، ليس مجرد انقطاع مؤقت، بل تذكير ناعم بضرورة أن تُبنى الأنظمة على أكثر من احتمال، وأن تُعزّز الخطط ليس فقط بما هو قائم، بل بما قد يغيب فجأة دون سابق إنذار. فحين تنطفئ الإشارة، لا يبقى لنا إلا ما احتفظنا به من وعي، وما أعددناه مسبقًا من احتياط، وما نؤمن به من أن التقنية – مهما بدت متقنة – لا تغني عن الحذر، ولا تعوّض عن الاستعداد.

التعليقات معطلة.