يعد الأكثر توزيعاً في العالم خلال ثلاثينيات القرن الماضي اشتراه الملايين ولم يقرأوه
لا يزال بعض المناضلين من بلدان عدة يحلمون بعودة هتلر (غيتي)
حتى اليوم يمكن القول إن الكتاب الذي وضعه ذلك المناضل المتطرف الشاب وهو قابع في زنزانة سجنه في ميونيخ عام 1924 معتقلاً بتهمة المشاركة في إعداد انقلاب عسكري في ألمانيا يطيح نظامها الخارج مهزوماً من الحرب العالمية الأولى ومهاناً من مؤتمر فرساي ومعاهداتها، هذا الكتاب لا يزال يثير كثيراً من المناقشات وضروب الغضب حين يعاد نشره في بعض البلدان بين الحين والآخر، ولا سيما في غرب أوروبا.
ويعتبر دائماً كتاباً ملعوناً مليئاً بالسموم وحان له أن يختفي نهائياً في مزابل التاريخ، ومع ذلك عرف كتاب “كفاحي” الذي وضعه أدولف هتلر في سجنه، مجداً كبيراً خلال الـ20 عاماً التي سبقت نهاية هتلر ونازييه إثر هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية.
وربما لا يزال ممكناً القول إنه لا يزال يعرف هذا المجد في عدد من بلدان لا يزال بعض “مناضليها” يحلمون بعودة “الحاج هتلر”، وهو في تلك البلدان ومنها بلدان عربية مثل لبنان يباع حتى على “عربات الخضراوات” إلى جانب كتب مثل “بروتوكولات حكماء صهيون” وحتى “هكذا تكلم زرادشت” لفريدريك نيتشه الذي لا يدرك مشتروه أنه كتاب فلسفي بل يخالونه تنظيراً للنازية كما وسمته إليزابيث أخت مؤلفه يوماً.
نجاح فكر متطرف
المهم أن “كفاحي” كان يحقق نجاحاً هائلاً بأفكاره التبسيطية المتطرفة وحضه على الكراهية واستخدام المذابح في السياسة وإلى ما هنالك، وتقول الأرقام إنه حتى من قبل ظهور مؤلفه على الساحة السياسية العالمية أول سنوات الثلاثينيات بيع منه ما يقارب 300 ألف نسخة بلغته الألمانية، وذلك قبل أن يصبح هتلر ظاهرة عالمية ويتسلم السلطة في ألمانيا فيصبح “كفاحي” إنجيلاً مقدساً يشتريه الملايين، “إنما من دون أن يقرأوه” بحسب كثر من المؤرخين، بل إن شركات ألمانية ضخمة مثل “كروب” راحت توزع نسخه مجاناً على المجتهدين من عمالها، في وقت راحت البلديات تهدي كل عروسين يتزوجان حديثاً نسخة منه.
وكذلك عمدت وزارة التربية الألمانية إلى توزيع الملايين من نسخه على الطلاب، وفي المقابل فإن السلطات الألمانية وبزعامة غوبلز راحت تمول ترجمته إلى لغات كثيرة في العالم وتهدي نسخه إلى سكان البلدان التي يترجم فيها.
ربما كانت الترجمة العربية التي لا تزال قيد التداول حتى اليوم من نتاج تلك البروباغندا النازية التي كانت تتعاون معها أحزاب مشرقية عديدة مثل جماعة أحمد حسين في مصر والحزب القومي في المناطق السورية وما إلى ذلك.
استعمار مكان آخر
يومها كانت فرنسا واحدة من البلدان القليلة في أوروبا التي لم تهتم السلطات الألمانية النازية أول الأمر بأن تمول فيها ترجمة ونشر للكتاب، ومن دون أن يعرف أحد السبب الذي ربما يكون على أية حال أن تلك السلطات وحتى عشية احتلال البلد المجاور أرادت أن تترك الأمر ليتم في فترة لاحقة على احتلالها له، أو أنها تعمدت تركه للنازيين المحليين يهتمون به ويحققون من خلاله ما يمكنهم من أرباح، لعلمها أن اليمينيين المتطرفين في هذا البلد كثر ويمكنهم أن يجعلوا من ترجمة “كفاحي” ونشره مشروعاً مربحاً لهم، غير أن هذا يبقى من قبيل التخمين، وذلك بالتحديد لأن هتلر نفسه سيكون لاحقاً حين يترجم الكتاب إلى الفرنسية وينشر، أول الغاضبين وسنقول لماذا، بعد سطور.
الحقوق في فرنسا
أما هنا فلنعد إلى تلك الترجمة الفرنسية نفسها التي لا بد من الإشارة أولاً إلى أنها كانت من أولى الترجمات إلى لغة أوروبية، وكان ذلك في عام 1934 بعد عام من وصول هتلر ونازييه إلى السلطة في برلين.
في ذلك العام ترجم ناشر فرنسي يدعى فرنان سورلو، وكان من أنصار شارل مورا صاحب النزعة الداعية إلى إعادة الحكم الملكي في فرنسا تحت رعاية النازية على رغم عدائه وعداء مورا المبدئي لألمانيا، الكتابَ بأكمله، ونشره من دون إذن من ناشره الألماني لدى دار نشر يملكها هي “المطبوعات اللاتينية الجديدة” المتخصصة في منشورات اليمين المتطرف بشكل عام.
والطريف أن هذه الطبعة الأولى التي لقيت رواجاً كبيراً، حملت على غلافها عبارة من الماريشال ليوتي أحد كبار “أبطال” الاستعمار الاستيطاني الفرنسي وبخاصة لمناطق المغرب العربي، مفادها أنه “يجب على كل فرنسي أن يقرأ هذا الكتاب”، ويبدو أن كثراً من الفرنسيين استجابوا لذلك “الواجب القومي” فبيع الكتاب بمئات ألوف النسخ، ولكن ذلك النجاح، بدلاً من أن يفرح مؤلف الكتاب أغضبه، لماذا؟ بالتحديد لأن دار النشر تناست أن تدفع له حقوقه من نشر الكتاب وبيعه.
ويبدو أن هتلر حتى وإن كان قد وصل إلى السلطة قبل حين وباتت كل مقدرات الرايخ الثالث ملك يمينه، تحرك فيه وربما لأول وآخر مرة، الشعور الطبيعي بالغبن الذي يتحرك عادة لدى المؤلفين حين تتجاهل دور النشر مطالبهم المحقة، فطلب من رجاله في فرنسا أن يتحروا الأمر، فلم يتمكن هؤلاء من الحصول له على ما يحق له الحصول عليه، وفي الوقت نفسه أبلغه هؤلاء أن الناشر ينتمي إلى فكر هو فكر اليمين المتطرف نفسه ولا يفرق عن الفكر النازي إلا بكونه معادياً لألمانيا سواء كانت ليبرالية أو نازية.
مؤلف عادي
وهكذا تحرك هتلر من طريق محاميه وممثليه في فرنسا مطالباً بمنع تداول الترجمة الفرنسية من كتابه بل حتى بمصادرة النسخ الموزعة في الأسواق، وكان له ما أراد، وهكذا اختفت تلك الطبعة الأولى تماماً واختفت معها نصيحة ليوتي، لكن الكتاب نفسه لم يختف إذ بعد فترة يسيرة من ربح هتلر قضيته في مواجهة الموراسيين، أصدرت منشورات “فايار” طبعة جديدة من الكتاب، وقد حرصت هذه المرة، وبدعم من الشبكات النازية الفرنسية كما يقول المؤرخون، على “تنقية” الكتاب من بعض العبارات والمواقف التي يبدو أنها لم تعد تتناسب، بعد عقد ونصف العقد من دبج هتلر فصول كتابه المسمومة حين كان مناضلاً في الزنزانة، مع الأوضاع الجديدة لكاتب بات سيد البلاد وبلاد وقعت لتوها اتفاقات ميونيخ، وسياسة تريد الآن استمالة عديد من الشعوب التي لا يمكن أن يرضيها ما في الكتاب الأصلي من مواقف استعلائية.
غلاف الترجمة الفرنسية لـ”كفاحي” (أمازون)
ومن هنا تخلص “كفاحي” من شيء من التطرف، حتى وإن بقي فيه كثير من الدعوة إلى العنف واللاسامية والاستعلاء ونزعة معاداة الديمقراطية والبرلمانية والسعي إلى إقامة دول على أسس عنصرية وتوتاليتارية، من دون نسيان النزعة الإمبريالية التي كان هتلر يحلم باكراً بأن تحل فيها ألمانيا محل البلدان الاستعمارية القديمة مثل فرنسا وبريطانيا، وهذه المرة بمساعدة فئات، بل حتى أحزاب شكلت حديثاً في بلدان متنوعة إثر لقاءات نورمبورغ النازية الشهيرة التي شاركت بها في عام 1936 وفود عربية رسمية وشعبية، فكانت المناسبة نواة تيار نازي عربي كبير، لكن تلك حكاية أخرى على أية حال.
حين ترجمها العرب
وربما يبقى أن نذكر أخيراً، نقلاً عن مؤرخين فرنسيين، أنه لئن كانت عشرات ألوف النسخ من الترجمة الفرنسية الأولى التي صودرت بأمر من هتلر نفسه قد اختفت فإن ثمة من بينها 5 آلاف نسخة “نجت بمعجزة”، لتقع لاحقاً بين أيدي زعماء منظمة صهيونية فرنسية هي “ليكا” تمكنت من توزيعها بريدياً أو بطرق مباشرة أخرى على عدد كبير من صناع الرأي في فرنسا لتنبههم إلى الفكرة الأساسية لهتلر، التي كانت تعتمل في رأسه وأفكاره قبل أن يتم تشذيب الكتاب تبعاً للضرورات الدبلوماسية.
والحقيقة أن النسخة التي سيتم تداولها منذ ذلك الحين في فرنسا هي النسخة المهربة، وهي على أية حال النسخة نفسها التي كانت وراء الترجمة العربية المتداولة منذ ذلك الحين والتي قرأتها النخب العربية، إذ إن الترجمة العربية تمت انطلاقاً منها وليس من “النسخة الفرنسية الرسمية”.