عُرفت تونس بولع شعبها بالرياضة وباهتمام حكوماتها السابقة بها بمختلف أنواعها. وشهدت البلاد قبل ثورة 2011 تنظيم تظاهرات رياضية كبرى اتسمت بنجاحها الباهر حتى صارت الاتحادات القارية والإقليمية والعالمية في رياضات عديدة تلجأ إليها عند عجز بلدان أخرى عن التنظيم. فقد فازت تونس، على سبيل المثال، بتنظيم كأس العالم لكرة اليد سنة 2005 رغم منافسة ألمانيا، العملاق الأوروبي، وقدمت في ذلك الوقت واحدة من أفضل الدورات العالمية في تاريخ كرة اليد، الرياضة التي تحظى بشعبية واسعة في تونس. كما تقدمت تونس بملف مهم لتنظيم كأس العالم بكرة القدم عام 2010، وتم سحب الترشح في اللحظات الأخيرة لمصلحة دولة عربية أخرى فشلت لاحقاً في نيل شرف التنظيم في منافسة مع دولة جنوب أفريقيا. وبالإضافة إلى ذلك، نظمت تونس عدداً من التظاهرات الرياضية المهمة منذ استقلالها، من بينها ألعاب البحر الأبيض المتوسط مرتين في عامي 1967 و2001، وكأس أمم أفريقيا لكرة القدم ثلاث مرات أعوام 1963 و1994 و2005، وكأس العالم لكرة القدم للشباب عام 1977 وغيرها. إهمال لسنواتأما اليوم فتبدو تونس عاجزة عن تنظيم التظاهرات المهمة في كرة القدم تحديداً، بعد اهتراء ملاعبها القديمة بسبب عدم العناية بها وتطويرها، كما أنها لم تشيد ملاعب جديدة طيلة السنوات التي تلت ثورة 17 كانون الأول (ديسمبر) 2011. فحكام العشرية الماضية من “الإخوان المسلمين” ومن تحالف معهم أهملوا ما شيدته دولة الاستقلال من ملاعب ولم يتعهدوها بالترميم والإصلاح والتطوير، كما لم يبنوا غيرها رغم حاجة بعض المناطق إلى ملاعب كبرى، ومنها مدينة صفاقس. وتحاول السلطات الجديدة التي استتبت لها الأمور فعلياً بعد 25 تموز (يوليو) 2021 تدارك ما فات، لكنها تجد نفسها عاجزة بسبب الحجم الكبير للخراب الموروث والذي يحتاج إلى اعتمادات مالية ضخمة، وبسبب استفحال الفساد الذي جعل مسألة تدارك هذا الخراب أمراً صعباً وربما مستحيلاً. ولعل أصدق مثال هو الملعب الأولمبي في المنزه الذي أعلنت إعادة بنائه بطابعه المعماري المتميز نفسه، ورصدت له الدولة مبلغاً مهماً وانطلقت الأشغال فعلياً وحرص رئيس الجمهورية على زيارته وتأكيد ضرورة إتمام أشغاله في الآجال المقررة، لكن هذه الأشغال توقفت بعد هدم الملعب، وسط حالة من الغضب والإحباط، ولا أحد يعرف مصير هذا الملعب التاريخي لتونس.
الرئيس سعيد في الملعب الأولمبي، المنزه (2023). ولعل ما حصل أيضاً للملعب الأولمبي في سوسة هو دليل على حالة العجز، فقد تمت توسعته لرفع طاقة استيعابه، وعند انتهاء الأشغال تم اكتشاف عيوب بالجملة في الملعب الذي لم ينل الترخيص من الاتحاد الأفريقي لكرة القدم ليحتضن المباريات القارية للنجم الرياضي الساحلي. واضطرت الأندية التونسية المشاركة في الكؤوس الأفريقية هذا العام إلى استقبال منافسيها في ملعب رادس الذي يبدو بحاجة إلى الغلق لإعادة تأهيله والعناية به، لكن الالتزامات القارية للأندية والمنتخب تجعل الأمر مستحيلاً في ظل عدم جاهزية ملعب المنزه.
ملعب سوسة: أخطاء في التأهيلمشكلات بالجملةتؤكد الصحافية التونسية المتخصصة بالشأن الرياضي سلاف الحمروني لـ”النهار العربي” أنه كان مبرمجاً أن يتم الانتهاء من أشغال ترميم ملعب المنزه هذا العام ليحتضن مباريات أندية العاصمة والمنتخب التونسي، ويتم غلق ملعب رادس لفترة طويلة لإعادة تأهيله، لكن أشغال ملعب المنزه توقفت وبالتالي سيتواصل استنزاف ملعب رادس. وما يزيد الطين بلة في ما يتعلق بأزمة الملاعب في تونس، وبحسب الحمروني، أن هناك أطرافاً تدفع باتجاه أن لا يستوعب الملعب الثالث للعاصمة، ملعب الشاذلي زويتن، الجماهير الرياضية في مدرجاته، وذلك بسبب وجوده في منطقة راقية فيها سفارات أجنبية يخشى ساكنوها على ممتلكاتهم من جماهير الكرة الغاضبة. وتضيف الحمروني: “من مظاهر الأزمة التي تعيشها تونس على مستوى البنية التحتية الرياضية أيضاً، عدم القدرة على بناء المدينة الرياضية في صفاقس أو على الأقل توسعة طاقة استيعاب ملعب الطيب المهيري في هذه المدينة المهمة في البلاد اقتصادياً ورياضياً. وهما مشروعان تمت برمجتهما في وقت سابق لكن الدولة لم تجد الاعتمادات المالية الكافية لإنجازهما أو إنجاز أحدهما على الأقل، وذلك في إطار العودة التدريجية بالبلد إلى دائرة الضوء رياضياً وتدعيم قدرته على تنظيم كبرى التظاهرات”.
ملعب الطيب المهيري في صفاقس. وتطالب الحمروني الدولة بـ”إيجاد الحلول الكفيلة بتجاوز هذه المعضلة التي تعيق تقدم الرياضة التونسية، باعتبار أن كرة القدم أصبحت اليوم أداة تسويقية لصورة البلد ونهضته وليست مجرد لعبة لإمتاع الجماهير كما كانت في السابق. فمن غير المعقول أن تغيب دولة مثل تونس، عرفت بإشعاعها الحضاري والثقافي والرياضي على قارتها، طويلاً عن تنظيم كأس أمم أفريقيا، وأن لا تفكر منذ 2010 في تنظيم مشترك لكأس العالم، حتى وإن كانت حاضرة في كل التظاهرات القارية والعالمية من خلال منتخباتها التي لم تنقطع عن الترشح إلى النهائيات”.