أثار تقرير أصدرته الخارجية الأميركية أدرج الجزائر في خانة الدول المنتهكة للحريات الدينية جدلاً واسعاً في الأوساط الرسمية والسياسية وحتى على مواقع التواصل الاجتماعي. الخارجية الأميركية وجهت انتقادات “شديدة اللهجة” إلى الجزائر في شأن ما وصفته “انتهاكات جسيمة” للحريات الدينية، وأبقتها ضمن قائمة البلدان التي تجدر مراقبتها بسبب ارتكابها أو تسامحها مع هذا النوع من الانتهاكات، وذكر البيان بأن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن “أبقى الجزائر ضمن لائحة المراقبة الخاصة لارتكابها أو تسامحها مع انتهاكات جسيمة للحرية الدينية”. الجزائر تأسف ودافع رئيس الدبلوماسية الأميركية عن حرية الدين والمعتقد، وقال إن “النهوض بهما يعتبر أحد الأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، منذ أن اعتمد أعضاء الكونغرس قانون الحرية الدينية الدولية وصادق عليه في عام 1998”. وذكر بلينكن أن “التحديات التي تواجه الحرية الدينية في جميع أنحاء العالم تعتبر تحديات هيكلية ومنهجية ومتجذرة، لا سيما من خلال الانخراط الرصين والمستمر لأولئك الذين لا يريدون قبول الكراهية والتعصب والاضطهاد بصفته وضعاً قائماً”، وتابع قائلاً: “سنشهد يوماً ما عالماً حيث يعيش الجميع بكرامة ومساواة”. وفي أول رد فعل من الجزائر، أسف وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف لـ”ما ورد في البيان الأخير لكاتب الدولة الأميركية المتعلق بالحرية الدينية من معلومات مغلوطة وغير دقيقة بخصوص الجزائر”، وورد في بيان للخارجية الجزائرية أن “الوزير عطاف أكد خلال المكالمة الهاتفية التي جمعته مع نظيره الأميركي بلينكن أن البيان أغفل الجهود التي تبذلها الجزائر في سياق تكريس مبدأ حرية الاعتقاد والممارسة الدينية، وهو المبدأ الذي يكفله الدستور الجزائري بطريقة واضحة لا غموض فيها”. لا أرقام رسمية
في ظل غياب أرقام رسمية عن عدد المسيحيين الموجودين في البلاد، تكشف إحصاءات غير رسمية أن عددهم مع أقليات أخرى يمثل واحداً بالمئة فقط من السكان، وثمة من يقدر عددهم بنحو 150 ألفاً إلى 200 ألف. وفي هذا السياق نقل التقرير السنوي الأميركي حول حرية ممارسة الأديان في العالم، أن 99 بالمئة من سكان الجزائر ينتمون للمذهب السني، بينما يشكل اليهود والمسيحيون والإباضيون أقل من واحد بالمئة، ويتوزعون حسبما ورد في التقرير على الجزائر العاصمة وعنابة ووهران ومنطقة القبائل وحتى جنوب الصحراء، وأغلبهم أفارقة، وهم من المهاجرين غير الشرعيين القادمين من أقصى الجنوب.
“النهار العربي” عرض التقرير الذي ما زال محل جدل واسع على منصات التواصل الاجتماعي وحتى وسط الطبقة السياسية للنقاش مع باحثين جزائريين.
“تقرير سياسي”الباحث في العلوم السياسية في جامعة محمد حيدر في بسكرة نور الصباح عكنوش قال لـ”النهار العربي”: “في تقديري وبالنظر إلى العديد من المؤشرات فالتقرير سياسي بالدرجة الأولى، وأرجح أنه كان جاهزاً في ذهن من أعدوه قبل صدوره، وعليه فهو يحتاج إلى تحديث في شكله ومضمونه حتى يتوافق موضوعياً مع حقيقة الحريات الدينية في بلد أغلبيته المطلقة تدين بالإسلام ويسود فيها المذهب السني المالكي، وتتمتع بوحدة العقيدة والمرجعية الإسلامية الخالصة، وبالتالي فهو نموذج إيجابي على هذا المستوى ووضعية ما وجد من مسيحيين مثلاً أكثر من جيدة من حيث التسامح الديني والجو الإيماني، وحالة الكنائس دليل على ذلك من حيث رعاية الدولة والمجتمع المدني”. ويعتقد أن “محاولة إسقاط واقع الشرق الأوسطي من حيث تعدد الطوائف واختلاف المذاهب وتنوع الأقليات على الجزائر تجانب الصواب وتنم عن قراءة خاطئة للحقيقة الجزائرية، ولذلك فإن هذه التصنيفات المدبرة دليل واضح على الخلفية السياسية الواضحة للضغط على الجزائر، بالنظر إلى مواقفها الثابتة والتي تزعج دوائر معينة في المؤسسة الرسمية الأميركية التي تستند إلى غرف تفكير لها أجندات وسيناريوات جاهزة لكل بلد بحسب السياقات والمتغيرات”. اتهامات وسبق لنظمة “الأبواب المفتوحة”، وهي منظمة غير حكومية مهتمة بشؤون المسيحيين، أن تحدثت في تقرير لها عام 2021 عن القوانين الجزائرية لمنع التبشير، وممارسة الحق في العقيدة، ووصف التقرير المواطن المسيحي الجزائري بالمواطن درجة ثانية، نظراً لحرمانه من حقوق عدة، بسبب العديد من القوانين، مثل قانون الأسرة.
أما السلطات الجزائرية فكانت تبرر غلق بعض الكنائس بمنع عمليات التبشير التي تتم عن طريقها. وسبق أن نظم ناشطون في بجاية قبل عامين وقفات احتجاجية بسبب ما وصفوه باضطهاد الأقليات ومنهم المسيحيون.
“نقمة غربية” الكاتب والمدون السياسي محمد جربوعة التميمي يرى أن “التقرير لا علاقة له جوهرياً بالحرية الدينية، لكنه استعمل الحرية الدينية لخطورته ولإبعاد الأمر من حقيقة الخلاف القائم حول مسائل جوهرية أخرى سياسية وغيرها، ومن الواجب اليوم إدراك أن إسرائيل ذاتها عضو في التحالف الدولي للحرية الدينية، وهو تكتل يضم اليوم 42 دولة، فالأمر شبيه بأن يكون لك خلاف مع شخص، فتضع الخلاف معه ضمن سياق محرم عالمياً كاتهامه بمعاداة السامية أو بالاضطهاد الديني أو غير ذلك”. ويقول إن “النقمة على الجزائر لها أسباب أخرى، حتى وإن فتحت الباب واسعاً للحريات الدينية، فالنقمة ستبقى، وتبدأ هذه النقمة من انحياز الجزائر إلى المحور الروسي ومحاولات دخول البريكس، والاقتراب من محاور معينة في المنطقة، ومحاولة اقتحام الملف الفلسطيني، والصراع بشأن أفريقيا ومحاولة الجزائر التحكم في هذا الملف”. ويضيف قائلاً إن “ذلك بعض مما يعد سبباً حقيقياً للغضب من الجزائر، وهو سبب تراكمي لم يولد إطلاقاً بين عشية وضحاها، بل تراكم خلال سنوات، وكانت قوى عالمية تترصد خطوات الجزائر وتمنعها أيضاً من تحقيق مبتغاها، انطلاقاً من دخول بريكس إلى تأليب جيرانها من الدول الأفارقة عليها”. وتضمن التقرير بحسب التميمي أربع نقاط خطيرة، ويتعلق الأمر بـ”مواصلة الضغط على الحكومات المصنفة لمعالجة القصور في قوانينها، مساءلة المسؤولين عن الانتهاكات، العمل مع منظمات المجتمع المدني، معالجة محنة الأفراد والمجتمعات التي تعاني الاضطهاد الديني، بمعنى آخر سيتواصل الضغط على الجزائر لدفعها نحو إصدار قوانين في مجال الحرية الدينية”. الطبقة السياسية في الجزائر هي الأخرى ثارت ضد التقرير وقالت أطراف فيها إن الغرض منه هو “ابتزاز الجزائر”. وفي بيان له أصدره الأسبوع الماضي، قال حزب التجمع الوطني الديموقراطي إن “التقرير صيغ بدوافع سياسية وغايات دينية لابتزاز الجزائر والضغط عليها بسبب مواقفها المناهضة لقوى الاستعمار والعنصرية”.