لكلّ حضارة نظرتها إلى السعادة. وثمّة نظرة مختلفة حتى داخل كلّ حضارة إلى ما تعنيه السعادة وسبل الوصول إليها. تناولت الحضارة الإغريقية هذا المفهوم وحاولت فكّ ألغازه. أحد أبرز مفكّريها الذين تطرّقوا إلى هذه الغاية الإنسانيّة الفيلسوف أرسطو. فما هي التوصيات التي أصدرها لقرّائه؟
لمعرفة الإجابة، أو صورة واسعة عنها بالحدّ الأدنى، يمكن الرجوع إلى الكاتب الأميركيّ والمحاضر في شؤون السعادة آرثر بروكس. لدى بروكس نحو 12 كتاباً في تطوير الذات، ومنذ 2020، أصبح يكتب عن هذا الموضوع في مجلّة “أتلانتيك” الأميركيّة. نظرة أرسطو إلى السعادة هي أحدث مقال لبروكس في هذا الإطار:
كتب بروكس أنّ السعادة ليست شيئاً يجب العثور عليه. إنّه شيء يجب جذبه. ولعلّ أشهر مؤيّدي هذه الفكرة هو الفيلسوف اليونانيّ أرسطو. لقد عرّف السعادة بأنّها eudaemonia والتي تعني “الروح الصالحة”. بالنسبة إلينا في العصر الحديث، قد يبدو هذا ضبابياً، مثل المشاعر السعيدة بشكل سطحيّ والتي يطاردها الكثير من الناس. بدلاً من ذلك، قصد الفيلسوف أنّ السعادة هي حالة إلهيّة من شأنها أن تزور كل واحد منّا كما تشاء. مسؤوليتنا الوحيدة هي فتح الباب لها. ونحن نفعل ذلك من خلال العيش بشكل جيد.
لكي نعيش بشكل جيّد، يجب أن نمارس فضائل معيّنة ونحوّلها إلى عادات. كما كتب أرسطو في كتابه “الأخلاق النيقوماخية”: “إذا كان من الأفضل أن تكون سعيداً بفضل مجهودات المرء أكثر من (كونك سعيداً) بفضل هبة من الحظ، فمن المعقول أن نفترض أنّ هذه هي الطريقة التي تُربح بها السعادة”. في ما يلي 10 من الفضائل التي يوصي بها والتي، كما تظهر الأبحاث الحديثة، تجذب عموماً الروح الصالحة.
1- الشجاعة
كتب أرسطو عن الشجاعة في سياق استعداد المرء للتضحية بحياته، كما هو الحال في الحرب. من الصعب تخمين ما إذا كان سيتعرف على الفضيلة في بيئاتنا الحديثة؛ من يدري ماذا كان ليقول عن الخوف من الإلغاء على وسائل التواصل الاجتماعي؟ لكن السؤال المطروح ليس مصدر الخوف ولكن ما إذا كانت الشجاعة – أي التصرف في مواجهة الخوف بدلاً من الاستسلام له – تدعو إلى السعادة. وتشير الأبحاث إلى أنّ الأمر كذلك: فقد أظهر العلماء أنّ الشجاعة يمكن أن تؤدّي إلى المرونة بعد الشدائد، وأنّ المرونة تؤدّي إلى مزيد من السعادة.
2-الاعتدال
بهذا، يقصد الفيلسوف ضبط النفس في مواجهة شهوات الفرد ونزعاته السيّئة. كان ليصنّف شعار الهيبيز “إذا كان شعوراً جيداً، فافعله!” كوصفة للبؤس. يتفق الباحثون المعاصرون الذين يبحثون في ضبط النفس، لكن مع بعض التنبيه. وجد العلماء الذين يكتبون في “مجلة الشخصية” سنة 2017 أنه مع زيادة التحكم في الانفعالات بين طلاب الجامعات على مدار اليوم، انخفض التأثير الإيجابيّ في البداية. لكن مع استمرار ضبط النفس في الارتفاع انخفضت المشاعر السلبية؛ ارتفعت السعادة إلى أعلى مستوياتها عندما كان ضبط النفس في أعلى مستوياته أيضاً. بعبارة أخرى، القليل من الاعتدال ليس جيداً للرفاهية، ولكن الاعتدال المفرط قد يكون أمراً رائعاً.
3-الليبرالوية
لا يشير الفيلسوف هنا إلى السياسة (الليبرالية) بل إلى المال. على وجه التحديد، يوصي بتجنّب البخل ولكن بدون تبذير. في الواقع، تشير الدلائل إلى أنّ كونك شخصاً بخيلاً يؤثر على صحتك. على سبيل المثال، أقام ثلاثة خبراء اقتصاديين في 2014 لعبة مساومة نهائية كان على المشاركين فيها تقسيم مبلغ معين من المال: يعرض أحد المشاركين تقسيماً معيناً؛ يمكن للطرف الآخر أن يقول نعم أو لا، لكن جواب “لا” كان يعني أنّ أيّاً من الطرفين لن يحصل على شيء. لذلك أمكن الردّ على عرض تقسيم رديء بتوتّر. وجد المؤلفون أن مستويات الإجهاد البدني كانت أعلى لدى كلا الطرفين عندما عرضت المساومة تقسيماً أقل من 40 في المئة.
4-العظمة
إنّ ما يسميه أرسطو “العظمة” مرتبط بالسخاء الذي يفكر شخص بموجبه في كيفية تنفيذ مشروعه بأسلوب نبيل ورائع، بدلاً من التفكير في كلفته وكيفية تنفيذه بأرخص الأسعار. لم يكن يؤكّد هنا أنّ الطريق إلى السعادة هو شراء يخت فاخر؛ بدلاً من ذلك، تعني العظمة العطاء للمشاريع التي تفيد عدداً كبيراً من الناس. الدعم الذي تحظى به هذه الفكرة لا لبس فيه: العطاء يمنح شعوراً جيداً.
5-عظمة الروح
بحسب أرسطو، يتصرّف الشخص ذو الروح العظيمة مثل سلفه سقراط الذي كان شخصاً “غير مبالٍ بالحظ الجيّد والسيئ”. يتطلب هذا أن تكون سامياً – وهذا لا يعني ألا تكون قادراً على أن تميّز بين الأشياء السارة وغير السارة، ولكن أن تكون مشغولاً بما هو أعمق وأكثر معنى في الحياة من الملذّات الموقتة والانزعاج العابر. في الواقع، يُظهر بحث يقارن السعي إلى المتعة بالسعي إلى المعنى بين المراهقين أنّ هذا الأخير يؤدي إلى سعادة أكبر. بعبارة أخرى، اِبتعد عن وسائل التواصل الاجتماعي واقرأ، على سبيل المثال، الأخلاق النيقوماخية.
6-اللطف
تشير فضيلة اللطف إلى ميل نحو الطيبة والقدرة على التحكم بأعصابك. الفكرة هي أنّ الاتّزان بهذه الطريقة يجلب السعادة. إذا كان هذا صحيحاً فإنّ نقيض اللطف، العدوانيّة، يجب أن يقلّل من الرفاهية عن طريق زيادة صعوبة إدارة عواطف المرء. اختبر الباحثون هذه الفكرة من خلال مطالبة الناس بالتفكير في شخص يحتقرونه ثم تخيل أفعال عنيفة وخبيثة تجاهه أو التركيز على فكرة محايدة (بالتحديد، ما خططوا لفعله في اليوم التالي، أي افتراض عدم ضرب الشخص المعنيّ). وجد الباحثون أنّ المفكرين العدوانيين شهدوا رفاهية أقلّ من الفريق المعتدل.
7-الصدق مع النفس
منح أرسطو الصدق امتيازاً كبيراً. ونصح بعدم التبجّح لكن أيضاً بعدم الانتقاص من الذات. قد تقولون إنّه أوصى بأن نسعى إلى شيء مثل التواضع الآمن، والذي من خلاله نتعرّف الى أنفسنا ويمكننا أن نظهر للآخرين ما نحن عليه من دون انتفاخ أو التقليل من السمعة الذاتية. يتفق هذا مع الأبحاث التي تظهر أنّ عدم الأمان والنقد الذاتي المفرط مرتبطان بالقلق والحزن.
8-الإنصاف
تحظى هذه الكلمة باهتمام كبير في مناقشاتنا الحديثة. وعادة ما تنطوي على بذل جهود لزيادة العدالة وتصحيح التمييز الماضي. ومن الواضح أنه عندما يعتقد الناس أنهم يعامَلون بشكل غير عادل، فإنّ ذلك يقلل من سعادتهم. لكنّ أرسطو كان يعني شيئاً مختلفاً تماماً: “الرجل المنصف… يكتفي بالحصول على نصيب أقلّ على الرغم من أن القانون إلى جانبه”. أطلق على هذا الأمر اسم “نوع خاص من العدالة”. بالنسبة إلى هذا الافتراض، لا يمكن لبروكس العثور على دليل تجريبيّ محدّد. ومع ذلك، من شبه المؤكّد أنّه مرتبط بالفضيلة التالية.
9-المسامحة
كتب أرسطو عن فضيلة مراعاة الآخرين. بالنسبة إلى الأذن المعاصرة، يبدو هذا وكأنه تهذيب أو حساسية لمشاعر الآخرين، لكنّ الفيلسوف كان يوصي بشيء أكثر تعقيداً: المسامحة وتحمّل أخطاء الآخرين. حكمة هذه النصيحة لها أدبيّات حديثة وكبيرة تدعمها. تُظهر كل دراسة تقريباً عن المسامحة أنّ ممارستها بشكل هادف والتخلّي عن المظالم يقلّل من أعراض الاكتئاب والقلق.
10-الحياء
حدّد أرسطو الحياء بأنه الامتناع عن السلوك المخزي (إذا كان مغرياً)، وطبّق ذلك حتى على السلوك الخاص. إنّ مفهوم الحياء هذا يجعله مشابهاً للاعتدال، لكن بدلاً من الاعتدال في مواجهة الشهوات الدنيئة، يجب أن نمتنع تماماً عن الرذائل. لكنه أضاف تفصيلاً مهمّاً: لا يمكن أن يكون الحياء فضيلة إلا إذا “كان رجل صالح يخجل لو فعل كذا وكذا”. بمعنى آخر، عليك أن تؤمن بأنّ فعلاً معيّناً شرير حتى تكون فاضلاً في تجنّبه. مثلاً، يوضح بروكس أنه ليس لديه شخصياً أي مخاوف أخلاقية بشأن الخمور ولكنه لا يشربها، لذلك وفقاً للمعيار الأرسطيّ، إنّ امتناعه عنها ليس فضيلة. عندما يقوم الناس بما يعتبرونه أفعالاً أخلاقيّة فهم يكتسبون السعادة بل وأكثر من ذلك الإحساس بوجود هدف؛ عندما يرتكبون أفعالاً غير أخلاقية، يواجهون العكس.
اقترح أرسطو فضائل السعادة هذه منذ أكثر من ألفي عام، لكنّ بروكس يعتقد أنها توفّر مرجعيّة سهلة اليوم للعيش بشكل جيد. ليس من السهل اتّباع أي من هذه القواعد. لا يزال من الصعب تحويلها إلى عادات. لكنّ المردود يستحق العناء.