1

مؤرّخ أميركي يدوّن سيرة “الكاسيت” المصري… شريط الثقافة الصوتية وقوّتها

07-08-2022 | 05:45 المصدر: النهار العربيالقاهرة – عبدالحليم حفينة

أجهزة تشغيل الكاسيت كانت شائعة في مصر

أجهزة تشغيل الكاسيت كانت شائعة في مصر

A+A-

في العام الأخير من المرحلة الثانوية، بدأ شغف أندرو سايمون بالشرق الأوسط يتشكل على مهل، كان حينها يعيش في ولاية كونيتيكت شمالي الولايات المتحدة، وعندما انتقل للدراسة في جامعة ديوك بولاية كارولينا الشمالية، تطور هذا الشغف إلى معرفة أكثر عمقاً.

ربما لم يكن يدور في خاطر أندرو وقتها، أنه سيسهم في ما بعد بمنتوج معرفي ثري لكل ناطق بالإنكليزية، لكن هذا ما حدث بالفعل، بعد أعوام قليلة من نهاية دراسته الجامعية، إذ قدّم عدداً من الإسهامات البحثية  المهمة عن الشرق الأوسط، كان آخرها كتابه الجديد، “إعلام الجماهير: ثقافة الكاسيت في مصر الحديثة”، الصادر عن مطبعة جامعة ستانفورد، هذا العام.

وأندرو سايمون، هو مؤرخ مختص بالإعلام والثقافة الشعبية في الشرق الأوسط الحديث، ويعمل محاضراً بكلية دارتموث في الولايات المتحدة، ودرس اللغة العربية في القاهرة إبّان حوادث ثورة كانون الثاني (يناير) 2011، وأصبح لديه شغف كبير بالثقافة المصرية.

إسهام سايمون البحثي المتميز، الذي تعزز على مدار نحو عشر سنوات، كان دافعنا لإجراء هذا الحوار معه حول كتابه الجديد، الذي تناول تأثير أشرطة الكاسيت على المجتمع المصري، منذ سبعينات القرن الماضي، وحتى مطلع الألفية الثالثة، عاكساً الدور البارز الذي لعبه الكاسيت في التغيّرات التي طرأت على المجتمع المصري الحديث.

شريط كاسيت للفنان الراحل حسن الأسمر

الخيط الأول

يعود سايمون بذاكرته إلى بدايات عام 2011، عندما جاء إلى العاصمة المصرية القاهرة، بعد أسابيع قليلة من تخرجه في جامعة ديوك، قائلاً: “أتيت إلى مصر للحصول على زمالة في مركز دراسة اللغة العربية بالخارج، والذي انتقل أخيراً إلى الحرم الجامعي القديم للجامعة الأميركية بالقاهرة، المطل على ميدان التحرير، وتصادف أن تتزامن تلك الزمالة مع الثورة المصرية عام 2011”.

ويضيف في حديثه لـ”النهار العربي”: “في خلال الأيام التي سبقت سقوط مبارك، أدركت للمرة الأولى قوة الثقافة الصوتية في مصر، وبعد ختام الزمالة، عدت إلى الولايات المتحدة لإتمام الدراسات العليا، وكتبت حينها أوراقاً بحثية عن مطربين كُثر، من الشيخ إمام إلى شعبان عبد الرحيم”.

في رحلته البحثية عن المطربين، اكتشف سايمون أن ثمة خيطاً مشتركاً يربط بين جميع القصص التي كتبها، وهو أشرطة الكاسيت، وبعدما توصل لهذا الاستنتاج، عاد إلى مصر، حيث شرع في كتابة تاريخ شريط الكاسيت، الذي أصبح بمثابة نافذة أطل منها على تاريخ مصر الحديث، وتأثير وسائل الإعلام الجماهيرية.

الرئيس المصري الراحل أنور السادات وبجواره جهاز تشغيل كاسيت

مزيج

في الكتاب الصادر حديثاً عن مطبعة جامعة ستانفورد، يرى المؤرخ الأميركي أنّ أجهزة الكاسيت ومشغلاتها، مكّنت عدداً غير مسبوق من الناس من خلق الثقافة، ونشر المعلومات، وتحدي الأنظمة الحاكمة، قبل وقت طويل من دخول الإنترنت حياتنا اليومية.

ولم يتناول المؤلَّف مسيرة شريط الكاسيت، في خط زمني متتابع، لكنه ناقش في كل فصل موضوعاً معيناً، مثل: ثقافة المستهلك، والجانب القانوني، والذوق العام، وتداول الأشرطة، وحتى أرشيف الصحافة، الذي كان مادة ثرية للغاية، اعتمد عليها الكاتب في رواية سردية.

يقول سايمون إنّه صنع محادثة في كتابه بين شرائط الكاسيت، ومشغلاتها، ومستخدميها المتنوعين، في سياق التطورات التاريخية الأوسع، من الهجرة الجماعية، إلى صناعة الأسواق السوداء، لينتج من هذا المزيج قصة ترسم ملامح جميع أفراد المجتمع، من المطربين والمهربين، إلى السياسيين وضباط الشرطة.

اجتازت هذه القصة ما يقرب من 50 عاماً من الماضي القريب لمصر، بدءاً من السبعينات – فجر ثقافة الكاسيت – حتى يومنا هذا، حيث لا يزال بإمكان المرء العثور على بعض آثار لثقافة الكاسيت، التي كانت ذات يوم النابضة بالحياة في مصر.

سطوة الكاسيت

سألنا سايمون عن أكثر قصة يمكن أن تعكس تأثير الكاسيت في المجتمع المصري، فأشار إلى “موسيقار القرن” محمد عبد الوهاب، الذي اكتسب نفوذاً لا يستهان به على الوسط الفني، ما جعل البعض يتخيل أنه رجل لا يُقهر، لكن أحد الجوانب المثيرة التي يكشفها الكتاب، أنّ الكاسيت قهر عبد الوهاب بالفعل، عندما عجز عن وقف قرصنة أغنياته، عبر نسخها بشكل غير قانوني على أشرطة الكاسيت.

يسوق الكاتب دليلاً إلى وهن عبد الوهاب أمام سلطة الكاسيت، فيقول: “عندما صدرت أغنية “من غير ليه”، تلقى عبد الوهاب رسالة من الحكومة التونسية، تُهنئه على رقم التوزيع الجديد الذي حققته الأغنية في تونس، المشكلة الوحيدة في هذا الأمر، أنّ عبد الوهاب، وشركته، “صوت الفن”، لم يوقعا على توزيع الأغنية في تونس، حيث انتقلت إلى الجمهور التونسي عبر أشرطة مقرصنة!”.

“ومن ثم، فإن القوة الإبداعية، وحيوية أشرطة الكاسيت، قد منحت القدرة على التأثير لعدد لا يحصى من الناس، وشكلت تحدياً كبيراً لأولئك الذين يسعون إلى التحكم في الشكل المفترض للثقافة المصرية”.

وانطلاقاً من قصة عبد الوهاب، يوضح سايمون أنّ أشرطة الكاسيت، الزهيدة التكلفة، والمحمولة والسهلة الاستخدام، مكّنت المصريين على اختلاف خلفياتهم الاجتماعية والثقافية، من أن يصبحوا منتجين وموزعين ثقافيين للمرة الأولى، بدلاً من مجرد مستهلكين.

لذلك، أثارت أشرطة الكاسيت التي لم تخضع لسيطرة الدولة، قلقاً كبيراً لدى السلطات المحلية، التي سعت للسيطرة على الشكل المفترض للثقافة المصرية، من خلال الإعلام التقليدي، كالتلفزيون، والراديو، والصحف، إلى جانب الرقابة، ومبادرات الثقافة العامة.

ويعزو المؤرخ الأميركي بداية الزخم الذي حازته ثقافة الكاسيت في مصر، إلى خلفية الطفرة النفطية في الدول العربية، عندما هاجر عدد لا يحصى من المواطنين موقتاً إلى الدول المجاورة، بحثاً عن أجور أعلى في السبعينات والثمانينات، سواء كان السفر إلى ليبيا أو العراق أو الخليج، أو أي مكان آخر.

ويوضح قائلاً: “قام عدد غير مسبوق من المصريين بشراء سلع استهلاكية، وكانت مشغلات الكاسيت، من بين الأشياء الأكثر شيوعاً التي اقتناها الناس آنذاك، والتي شقت طريقها بعد ذلك إلى مصر، حيث ساهمت في تأسيس “المنزل المصري الحديث”. لذا، فإن فجر ثقافة الكاسيت في مصر عابر للحدود جزئياً، وتزامن مع خلق ثقافة أوسع للاستهلاك الجماعي”.

إعلان لإحدى شركات انتاج أشرطة الكاسيت

القصّة المنسيّة

بحسب ما يعتقد الكاتب الأميركي، لا يزال الصراع حول السيطرة على الثقافة المصرية قائماً، والذي يتجلى بوضوح في قضية مطربي المهرجانات، والمؤثرين على المنصّات الاجتماعية، ويرى أنّ وسائل التواصل الاجتماعي، تمثل امتداداً لأشرطة الكاسيت من نواحٍ عديدة، رغم أن التقنيتين يجمعهما القليل من القواسم المشتركة.

ويقول: “قبل وقت طويل من إتاحة المنصّات الاجتماعية، مثل فايسبوك، وتويتر، المجال لأصوات لا حصر لها، استطاعت الأشرطة، المكونة من بكرات مغناطيسية، وأغلفة بلاستيكية، توفير القدرة لعدد غير مسبوق من الأشخاص للوصول إلى جمهور واسع”.

ويتابع: “يحظى الإنترنت بالطبع بجمهور أكبر من الأشرطة، لكن عديداً من التطورات التي ننسبها إلى وسائل التواصل الاجتماعي، مثل تعزيز اللامركزية في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة، تم تحقيقها بواسطة الكاسيت قبل عقود. هذه هي القصّة المنسية التي أشاركها في الكتاب: قصة الحياة الاجتماعية لتكنولوجيا عادية، وكيف غيّر مستخدموها الثقافة والسياسة والمجتمع المصري”.

أما بالنسبة لمطربي المهرجانات، فيشير سايمون إلى أن ثمة الكثير من أوجه الشبه بينهم وبين النجوم الشعبيين الأوائل، مثل أحمد عدوية، الذي استعرضت أغنياته الحياة اليومية باللهجة المصرية العامية، إذ تلقى انتقادات شديدة من النخب الثقافية التي اعتبرت نجاحه بمثابة “موت للذوق العام”.

ويستطرد: “كما أوضحت في الكتاب، فإن المناقشات حول “الابتذال” ليست جديدة بأي حال من الأحوال في مصر، ويمكن إرجاعها إلى سبعينات القرن الماضي على الأقل، عندما أعادت أشرطة الكاسيت ومشغلوها تشكيل الثقافة المصرية تشكيلاً جذرياً”.

الشّيخ إمام ونيكسون

ملمح آخر تناوله أندرو سايمون في كتابه، إذ كرَّس فصلاً للحديث عن الفنان الثوري الراحل، الشيخ إمام، هو معارض سياسي بارز، فقد بصره بعد ولادته بفترة وجيزة، وأصبح أيقونة لليسار العربي، وشهد فنه انتعاشاً في أثناء الربيع العربي، عندما أعاد المصريون الروح لأغنياته داخل ميدان التحرير وخارجه.

وعند الحديث عن الشيخ إمام، الذي لولا شرائط الكاسيت ما استطاع الوصول للجمهور، نجد أن سايمون أولى اهتماماً خاصاً لزيارة الرئيس الأميركي، ريتشارد نيكسون، لمصر في صيف عام 1974، حيث تطرق لمواجهة الشيخ إمام لـ”الرواية الرسمية” للحكومة المصرية عن الزيارة، من خلال الأشرطة التي انتشرت كالنار في الهشيم، والتي حملت أغنيته الشهيرة “شرفت يا نيكسون بابا”.

ويقول سايمون “إنّ إرث الشيخ إمام، لا يخص مصر فقط، ولكنه يتعلق بالقصص الوطنية وقوة الثقافة الشعبية، وحالياً أعكف على كتابة سيرة ذاتية للشيخ إمام، وأرحب بأي قصص قد يرغب القراء في مشاركتها عنه”.

وفي ختام حديثه لـ”النهار العربي” يقول أندرو سايمون: “لدي حلم، وهو أن تتم ترجمة كتابي “إعلام الجماهير: ثقافة الكاسيت في مصر الحديثة” إلى اللغة العربية، وإتاحته لمجتمع أوسع من القراء في مصر وعبر الشرق الأوسط، لأني كتبت هذه القصة لأي شخص مهتم بالموسيقى، أو الإعلام أو الماضي القريب، وآمل أن يكون لها صدى لدى الناس”.

التعليقات معطلة.