أزمة النظام في العراق من منظور اقتصادي وسياسي… إلى أين؟
الأربعاء – 12 محرم 1444 هـ – 10 أغسطس 2022 مـ رقم العدد [15961]
د. ثامر محمود العاني مدير إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية – أستاذ الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد سابقاً
الأزمة السياسية الحالية في العراق بدأت منذ غزو العراق عام 2003، والاحتلال لم يستطع خلق نظام سياسي واقتصادي مستقر، ودولة ذات مؤسسات بالمعنى القانوني والسياسي والاقتصادي، وخلال كل تلك السنوات، كانت أميركا وإيران تديران الأزمة السياسية، وهنا نقصد أزمة السلطة السياسية التي قامت على أساس المحاصصة القومية والطائفية. ولم تستطع نفس الطبقة الحاكمة في العراق حسم الخلاف السياسي في صفوفها. أما الجديد في الأزمة المذكورة هو أن انتفاضة أكتوبر 2019 التي عمقت من أزمة السلطة السياسية في العراق، هي من قلبت المعادلة السياسية القائمة على المحاصصة والدستور الذي كتب عام 2005. أثبت الواقع أن الرهان على الانتخابات لتغيير المشهد السياسي في العراق فشل، ولم يساورنا أدنى شك في ذلك، لأنه ببساطة من يحسم مسألة السلطة السياسية ليس من يحصد الأصوات في الانتخابات، بغض النظر عن شفافيتها ونزاهتها من عدمها، بل من يحسمها هو من يمتلك الميليشيات المسلحة ودعمها الخارجي. وقد اكتشف العراقيون بعد ما يقارب عقدين من الزمن منذ عام 2003 فشل الانتخابات، ولذلك قاطعوها بنسبة أكثر من 82 في المائة، وهذا هو سر رفضها من معظم الشعب العراقي بمن فيهم الفائزون.
تشير أرقام البنك الدولي إلى أن العراق سجل نموا اقتصاديا بنسبة 8.9 في المائة لعام 2022 بسبب ارتفاع أسعار النفط منذ نهاية 2020 وحتى الآن، وأن نصيب دخل الفرد من الناتج القومي وصل إلى 6 آلاف دولار عام 2021، وهذا لا يعكس أي تغير بنيوي اقتصادي في أداء الاقتصاد العراقي، وإنما جاء بسبب ارتفاع أسعار النفط. لعل المتضرر الأول والأخير هي مصالح الشعب العراقي، يتقدمه العاطلون عن العمل الذين تقدر وزارة التخطيط العراقية عددهم بأكثر من 4 ملايين عاطل، ونسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر تصل إلى أكثر من 27 في المائة أي ثلث سكان العراق إذا لم نقل أكثر من هذه النسبة، خاصة بعد تخفيض سعر قيمة العملة المحلية (الدينار العراقي)، حيث لم تكمل الحكومة العراقية (حكومة الكاظمي) كل الإجراءات الأخرى لتخفيف الأثر على أصحاب الدخول المحدودة بشكل خاص وعموم الشعب، من جراء تخفيض قيمة الدينار العراقي، ويعاني العراق من ضغوطات عدة ناتجة عن الأزمات المالية والاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها، ولما شهده العالم أيضا من آثار مدمرة وانحسار اقتصادي حاد أثناء الإغلاق الكلي المفروض عالميا جراء انتشار جائحة «كورونا»، والنزاع الروسي الأوكراني وتداعياتهما على الغذاء والطاقة وسلاسل الإمداد العالمية.
لقد أصبح العراق اليوم حسب تقارير المنظمات الدولية من الدول الأكثر فساداً في العالم استناداً إلى تقرير منظمة الشفافية الدولية، واحتل نهاية قائمة الدول من حيث نوعية مستوى الحياة والتعليم والصحة بما في ذلك الدول الأقل نموا، حيث سجل معدل البطالة مستوى عالياً بالمقارنة مع الدول المنطقة. كما أن مساهمة القطاع النفطي هي الأكبر في توليد الناتج المحلي الإجمالي وتصل إلى 78 في المائة، بينما بلغت مساهمة في الإيرادات ما يقترب من 95 في المائة.
إن عواقب اعتماد العراق على النفط هي أعلى بكثير من نظرائه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي نقاط ضعف شديدة أمام التحركات المعاكسة في أسعار النفط.
ومن أجل النهوض بواقع الاقتصاد العراقي وتنمية قدراته في ظل التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة في العراق، تشكل تنمية القدرات الإنتاجية في القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية والعلمية وغيرها، العامل الأساسي لتحقيق النمو الاقتصادي، ويكون بمقدوره تعبئة الموارد المحلية من أجل تمويل النشاط الاقتصادي، وعدم الاعتماد على المعونات أو المساعدات الخارجية، والعمل على اجتذاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة التي يمكن أن تدعم عملية التنمية، ومن خلال تنمية القدرات الإنتاجية، سوف يكون بمقدور العراق أن ينافس في الأسواق الدولية للسلع والخدمات التي تتجاوز نطاق السلع الأولية، والتي لا تعتمد على توفر أفضليات خاصة فيما يتعلق بالوصول إلى الأسواق.
هنا أرى أن يوظف الزخم الشعبي لتحقيق الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمالي، من خلال الأخذ بالاعتبار المقترحات المهمة المدرجة أدناه، ولا بأس أن تأتي تدريجياً من خلال:
أولا: من أجل تحقيق الإصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والمالي في العراق، لا بد من العمل على تحسين مناخ الاستثمار، والذي يحتل فيه الجانب الأمني والقضائي ركناً أساسياً ومهماً، على اعتبار أن إصلاح القضاء يمثل المرتكز الأساسي لإصلاح باقي مؤسسات الدولة، ودستوراً حديثاً ومتطوراً يواكب التطورات التي حصلت في العالم، وهذا يتطلب إزالة ورفع الاجتثاث والإقصاء والتهميش والطائفية من دستور العراق الذي أقر عام 2005، وإعداد دستور جديد ومشاركة جميع العراقيين من دون استثناء أو إقصاء لأي جهة في بناء العراق، آخذين في الاعتبار أن الديمقراطية تعني حكم الشعب، وحرية الرأي، وحرية الفكر، وحرية الانتماء الحزبي، والأمن الإنساني، وأمن الفرد، هذه جميعاً تمثل مقدمات أساسية وضرورية لتحسين مناخ استثمار مناسب لتحقيق التنمية الاقتصادية وجلب الاستثمار الأجنبي المباشر.
إن تطبيق تلك الإصلاحات يتطلب اتخاذ تدابير قاسية، رغم مرارتها، لمعالجة مشكلة العراق مما يتطلب شجاعة سياسية، وقبولاً من أبناء الشعب العراقي، وفي مقدمتهم النخب السياسية ومشاركتهم في تنفيذ هذه الإجراءات الشمولية.
ثانياً: قيام الحكومة بإجراءات صارمة لمكافحة الفساد، والتهرب الضريبي للشرائح الاجتماعية القادرة على دفعها، إذ تشكل نسبة الإيرادات الضريبية إلى الإيرادات العامة في العراق عام 2019 نسبة 10.8 في المائة، مقارنة مع المغرب (86.2 في المائة)، ومصر (74.3 في المائة)، ولبنان (83.8 في المائة)، والأردن (64.4 في المائة)، والإمارات (51.6 في المائة) في المائة، وذلك وفقا للتقرير الاقتصادي العربي الموحد 2021.
ثالثاً: العمل في إطار برنامج زمني محدد على استغلال الإيرادات النفطية لأغراض الاستثمار في الأنشطة التي تساهم مباشرة في التنويع الاقتصادي والبحث العلمي والابتكار وتطوير الصادرات غير النفطية، وانتهاج سياسة انتقائية في دعم أو تحفيز الأنشطة التنموية وتوجيه الدعم والحوافز للأنشطة التي تساهم مباشرة في تحقيق هدف التنويع الاقتصادي، وجعل رفع الإنتاجية على رأس الأولويات الوطنية مع ضمان اتساق كل السياسات مع هذه الأولوية، وتوفير البيئة التي تخدم هذه التوجهات.
رابعاً: في إطار الإصلاح النقدي، لا بد من تحديد سعر صرف الدينار العراقي من خلال السعي إلى تقريب سعر الصرف من واقع السوق (تخفيض مدروس) Devaluation، وعلى البنك المركزي العراقي ممارسة «إدارة فاعلة» في حال حصول تقلبات واسعة في سعر الصرف.
خامساً: نؤكد على أهمية الاستمرار في العمل بالبطاقة التموينية، وتأجيل النظر في إلغائها حتى تتحسن ظروف العراق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، حيث من الصعب الآن التمييز بشكل دقيق بين من يستحق البطاقة التموينية، وبين من لا يستحقها لتعويضه مالياً ودعم دخله، حيث إن الدخول في هذا الموضوع في الوقت الحاضر سوف يضيف مشكلة أخرى إلى مشاكل العراق الكثيرة.
سادساً: ثمة مجال للأخذ بالأشكال الجديدة للسياسات القطاعية الصناعية والزراعية المختلفة التي وضعت مؤخراً في الدول المتقدمة والدول النامية المتقدمة، والتي تستند إلى نموذج مختلط قائم على السوق، حيث تعمل المشاريع الخاصة والحكومة معاً على نحو وثيق من أجل خلق نوع من التكامل بين القطاعين العام والخاص، إذ تعمل الحكومة على مساعدة القطاع الخاص في استكشاف واستغلال الإمكانات الاقتصادية، ودعمه مالياً وفنياً عندما يحتاج إلى ذلك باعتبار أن الدولة هي الراعي والموجه.