1

قصّة الإذلال المدوّي لأميركا والناتو في أفغانستان

15-08-2022 | 07:54 المصدر: النهار العربي نورا عامر

 أشخاص يسيرون على مدرج مطار أثناء نزولهم من طائرة نقل عسكرية في القاعدة الجوية العسكرية الفرنسية 104 في الظفرة، بالقرب من أبو ظبي، بعد إجلائهم من كابول يوم 23 آب 2021 (أ ف ب)

أشخاص يسيرون على مدرج مطار أثناء نزولهم من طائرة نقل عسكرية في القاعدة الجوية العسكرية الفرنسية 104 في الظفرة، بالقرب من أبو ظبي، بعد إجلائهم من كابول يوم 23 آب 2021 (أ ف ب)

A+A-

يرفرف العلم الأبيض بحروفه العربية السوداء في مختلف أنحاء كابول، وهو رمز انتصار حركة “طالبان” على عربات “الهامفي” الأميركية التي يتنقل فيها المقاتلون مع بنادق “إم 16” الأميركية.

وبعد مرور عام على استيلاء “طالبان” على السلطة، يصعب استيعاب حقيقة أن 20 سنة من الجهود الدولية لإعادة هيكلة أفغانستان، بتكلفة تصل إلى تريليون دولار وخسارة عشرات الآلاف من الأرواح الغربية والأفغانية، أدت إلى عودة الحركة إلى الحكم في نهاية المطاف.

ويستقبل الوافدون في المطار بلافتة كتب عليها: “تسعى إمارة أفغانستان الإسلامية إلى إقامة علاقات سلمية وإيجابية مع العالم”. ورغم آمال البعض المبكرة في أن تكون الحركة أصبحت أكثر استنارة وتخلت عن التخلف الذي هيمن على حكمها في تسعينيات القرن العشرين، لا تزال أفغانستان البلد الوحيد على وجه الأرض الذي تمنع فيه الفتيات من الالتحاق بالمدرسة الثانوية.

ومنذ الاستيلاء على السلطة، استبدلت الحركة وزارة شؤون المرأة في الحكومة الأفغانية السابقة بوزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفرضت على النساء ارتداء الحجاب، كما منعتها من السفر لمسافة تتجاوز 72 كيلومتراً من دون رجل برفقتها. أما الناشطون في المجتمع المدني، فيهيمن الخوف على حياتهم. وأطلق عناصر الحركة، يوم السبت، النار في الهواء لتفريق تظاهرة نظمتها مجموعة من النساء في كابول. وفي نهاية الأسبوع الماضي، نفذ أول جلد علني بحق امرأتين ورجل متهمين بالزنا ورجلين متهمين بالسرقة.

وفي إطار وعد الحركة بقطع علاقاتها مع الإرهابيين، في إطار الصفقة التي أدت إلى الانسحاب الأميركي من البلاد، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن هذا الشهر عن مقتل زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري، في غارة بطائرة مسيرة على حي سكني في كابول، حيث يبدو أن “طالبان” استضافته منذ كانون الثاني (يناير).

وتحتفل “طالبان” اليوم الاثنين بذكرى أكبر إذلال في تاريخ منظمة “حلف شمال الأطلسي” (الناتو)، بعروض عسكرية وتجمع كبير في قلب قندهار. 

وباتت هذه الأحداث للغرب حرباً يريد أن ينساها الجميع. مع ذلك، قال سعد محسني، مالك قناة “تولو تي في” التجارية الرائدة في أفغانستان: “إن تمكن البيت الأبيض من حذف كلمة أفغانستان من القاموس، سيتمكن الغرب من تحقيق ذلك”.

ويسود شعور مماثل في أروقة وايت هول، إذ وصف النائب عن حزب المحافظين توم توجندهات، الذي يرأس لجنة الشؤون الخارجية وعمل في أفغانستان، ما حصل بـ”أكبر كارثة في السياسة الخارجية للمملكة المتحدة منذ أزمة السويس”. 

وكان التحقيق الوحيد في الانسحاب الفوضوي هو ذلك الذي ادعى أن دومينيك راب، وزير الخارجية البريطاني آنذاك، بقي مستلقياً على سريره في جزيرة كريت بينما كان المسؤولون الشباب يحاولون التعامل مع الوضع، والوكيل الدائم لوزارة الخارجية فيليب بارتون،  قرر عدم العودة من عطلته حتى انتهاء الإخلاء.

وكانت بريطانيا ثاني أكبر مشارك في القوات الغربية في أفغانستان بعد الولايات المتحدة، في حرب كانت الأطول بالنسبة إليها منذ حرب المئة عام. وأنفقت الدولة أكثر من 40 مليار جنيه إسترليني، كما خسرت 453 جندياً، فضلاً عن مواجهة آلاف آخرين مشاكل جسدية ونفسية.

وعندما بدأت صحيفة “الصنداي تايمز”، في الأسابيع الأخيرة، في طرح أسئلة حول المسار الخاطئ الذي اتخذته الأحداث وما إذا كانت المملكة المتحدة قد بذلت أي جهد للتأثير على حليفها الأقرب لإعادة التفكير في الانسحاب المدمر، كشف نمطاً اعتمده “داونينغ ستريت” لفك الارتباط مع الخارج. وعندما اتضح أن “طالبان” تتجه نحو السيطرة على السلطة، لتبدأ لعبة توزيع الاتهامات بين مختلف الإدارات الحكومية والدوائر العسكرية والسياسية. 

وقال نادر نادري، أحد كبار المفاوضين الأفغان في محادثات السلام مع “طالبان”: “نظراً إلى تاريخ المملكة المتحدة الطويل في أفغانستان وكل ما قدمت من دماء وأموال على مدى السنوات العشرين الماضية، رأيت غرابة في غياب المشاركة في انسحاب إدارة بايدن”. وأضاف أن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، عندما كان يخطط للانسحاب عام 2016 قبل مغادرته منصبه، واجه ضغطاً من رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون والمستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، فقرر الحفاظ على مزيد من القوات. أما في هذه المرة، فلم تسهم المملكة المتحدة في صنع القرار.

وفي غياب الجهود للتدخل، أدى الانسحاب السريع للقوات الأميركية إلى سقوط مقاطعة تلو الأخرى بين أيدي “طالبان”، وسط انهيار جيش “الناتو” الذي كلف إنشاؤه مبالغ باهظة، ما دفع الكثير من الأفغان إلى الاعتقاد أن ما حصل خطة اعتمدها الغرب لتسليم السلطة للحركة.

أزمة طويلة الأمد

وقال الجنرال نيك كارتر، الذي كان رئيساً للأركان عندما سقطت كابول، إن ما حصل في يومي 14 و15 آب (أغسطس) كان العارض الأخير لمرض طويل الأمد، مشيراً إلى غياب استراتيجية سياسية متماسكة وفهم للسياسة الأفغانية المحلية، إلى جانب الفساد المتفشي وسوء الإدارة وقوة الشرطة المفرطة التي لا تستند إلى كيفية حماية الشعب.

وبين الأماكن الكثيرة التي يرفرف فيها علم “طالبان” أكاديمية ضباط الجيش الوطني الأفغاني، أي المشروع الرائد للجيش البريطاني الذي افتتح في واد صخري في غرب كابول عام 2013، بتكلفة تصل إلى 75 مليون جنيه إسترليني.

وقبل عامين، رأى كارتر الأكاديمية انجازاً تفتخر به القوات البريطانية في أفغانستان. 

وقال وزير القوات المسلحة آنذاك مارك لانكاستر، الذي كان قد خدم في أفغانستان، في حديثه في حفل التخرج الأول للطالبات عام 2017: “أنتن لستن بمفردكن. بريطانيا ستبقى إلى جانبكن”. مع ذلك، لم تجد الخريجات العام الماضي بريطانيين ولا غيرهم من الحلفاء إلى جانبهن.

ورغم التدريبات، قاد القادة الأفغان صفقات متتالية فور انسحاب القوات الأميركية، وبدأت “طالبان” تتقدم في سيطرتها على المقاطعات.

طالبان تعيد حشد صفوفها

ومنذ البداية، لم يكن الهدف الذي حاول المجتمع الدولي تحقيقه في أفغانستان واضحاً.

وعندما دخلت القوات التي تقودها الولايات المتحدة في كانون الأول (أكتوبر) 2001 إلى أفغانستان، رداً على هجمات 11 أيلول (سبتمبر) الارهابية، أطاحت بنظام “طالبان” في غضون 60 يوماً. 

وكان الهدف الرئيسي من دخولها الانتقام والعثور على مؤسس تنظيم “القاعدة” أسامة بن لادن، رغم أنها أضاعت فرصة القبض عليه في جبال تورا بورا، ليصل في نهاية العام إلى باكستان. فلم يتوقع أحد أن تبقى القوات في البلاد لمدة 20 سنة.

وبدا كفاح الاتحاد السوفياتي الطويل للخروج من غزو عام 1979 بمثابة تحذير. وحذر أندريه أفيتيسيان، السفير الروسي آنذاك في كابول، من أن “الدخول إلى أفغانستان في غاية السهولة، لكن الخروج منها صعب إلى حد بعيد”.

ومنح تشتيت الانتباه الذي أثارته الحرب في العراق عام 2003 “طالبان” فرصة لإعادة تجميع صفوفها عبر الحدود في باكستان، التي كان من المفترض أن تكون حليفة للغرب. 

وعام 2006، أرسلت بريطانيا قوات إلى ولاية هلمند، لما كان من المفترض أن يكون مشروع إعادة إعمار. ورغم أن وزير الدفاع البريطاني السابق جون ريد أعرب عن أمله بعدم إطلاق “رصاصة واحدة”، وأطلقت 46 مليون رصاصة بحلول الوقت الذي انسحبت فيه القوات بعد ثماني سنوات.

وعام 2011، كان لدى “الناتو” 140 ألف جندي في أفغانستان مزودين بأحدث الأسلحة. ويذكر أن عدد عناصر “طالبان” كان يبلغ 20 ألف شخص فقط.

“اعرف عدوك”، هي المقولة المأخوذة من كتاب “فن الحرب” للخبير العسكري الصيني صن تزو. لكن قوات “الناتو” لم تكن تعرف الكثير عن “طالبان”، وغالباً ما كانت تنسب إليها الاشتباكات القبلية المحلية، كما لم يكن لديها سوى صورة واحدة غير واضحة لزعيمها الملا عمر، والذي بقيت معتقدة أنه على قيد الحياة لمدة عامين بعد وفاته.

وكانت قوات “الناتو” تقاتل لدعم جهاز حكومي فاسد اعتبره معظم الأفغان المشكلة الرئيسية في حياتهم. وعبر الحدود، كانت باكستان تتلقى مليارات الدولارات من الولايات المتحدة لدعم لعبة مزدوجة، وإيواء “طالبان” وتمكين بن لادن من العيش في أبوت آباد، في جوار أكاديمية عسكرية.

ورأى التحالف أن المخرج يتمثل ببناء جيش أفغاني قادر على مواجهة “طالبان”، ما يسمح للقوات العربية بالمغادرة. وأنفقت واشنطن 83 مليار دولار على بناء جيش مؤلف من 300 ألف جندي.

ويقول كارتر إنه أوصى بنشر قوة مؤلفة من 60 ألف فرد فقط، محذراً مراراً من أن هذه الخطوة “غير مستدامة”. 

وبدلاً من تزويد الأفغان بمروحيات روسية يجيدون استخدامها، منحتهم الولايات المتحدة مركبات أميركية معقدة لم يتمكنوا من صيانتها، ما أدى إلى اعتمادهم على 16 ألف متعاقد أميركي ساعدوا في الحفاظ على الأسطول الجوي والأصول الأخرى التي قدمتها واشنطن.

وقال كارتر: “كان جيشاً مصمماً وفقاً للصورة الغربية واعتمد إلى حد بعيد على دعم الأميركي للتعامل مع منصة تقنية ولوجستية”، مشيراً إلى أنه أمضى وقته كنائب لقائد “الناتو” عام 2013 محاولاً اقناع التحالف بالحاجة إلى إيجاد حل أفغاني.  

انسحاب حتمي

وذكر وزراء الحكومة البريطانية ومسؤولون مشاركون في الاجلاء العام الماضي أن الطريقة التي ستنسحب بها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون من أفغانستان أصبحت حتمية قبل 18 شهراً ، في 29 شباط (فبراير) 2020، يوم وافق الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب  على صفقة مع “طالبان” في الدوحة تسمح للقادة السياسيين في الحركة بالعمل في المنفى. وأنهت الصفقة النزاع المستمر منذ 20 سنة، وفرضت قيوداً تشمل انسحاب قوات “الناتو” من أفغانستان مقابل ضمانات محددة لمكافحة الإرهاب.

وكانت صفقة غير عادية، إذ تم التفاوض عليها بدون مشاركة الحكومة الأفغانية، ما يؤكد أن الأخيرة كانت “دمية”، كما سمتها عليها “طالبان”، مع إلزامها بالإفراج عن 5 آلاف سجين ينتمي إلى الحركة.

ووافق ترامب مبدئياً على خفض القوات الأميركية من 13 ألف  إلى 8600 جندي خلال 135 يوماً وإغلاق القواعد الأميركية العسكرية الخمس، قبل الانسحاب الكامل بحلول 1 أيار (مايو) 2021.

ولاقت الصفقة دعم باكستان والصين وروسيا، وصدق عليها في إجماع مجلس الأمن. لكن مصادر حكومية رفيعة في لندن أفادت أن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون كانت لديه تحفظات جدية بشأن الصفقة، إلى جانب وزير الدفاع بن والاس ووزيرة الداخلية بريتي باتيل.

وتحدث مصدر حكومي رفيع عن عدم ارتياح الشخصيات الثلاث للصفقة، وعدم تفاؤلهم بشأن الانسحاب من البلاد.

وذكر مسؤول رفيع في وزارة الدفاع: “لا أرى أي طريقة كان يمكن أن يكون عليها الصيف الماضي بشكل مختلف منذ لحظة توقيع الدوحة. كانت الحركة تعمل على مدار الساعة، مشيراً إلى تهديدها بتصعيد العنف في حال عدم انسحاب القوات. 

وفي حينه، أعرب والاس عن ترحيبه بالصفقة باعتبارها “خطوة صغيرة لكن مهمة نحو عيش الأفغان في سلام”، ليعود ويصفها في ما بعد بأنها “صفقة فاسدة”.

وكتب الرئيس السابق لـ”وكالة الاستخبارات المركزية” (سي أي أي) ديفيد بترايوس، الذي قاد القوات الأميركية في العراق وأفغانستان، الأسبوع الماضي في مجلة “أتلانتيك”: “لا بد من تصنيفها بين أسوأ الاتفاقات الدبلوماسية التي أبرمتها واشنطن”.

وبعد الصفقة، اتضح أن قوات الأمن الأفغانية باتت بمفردها.

وقال المفتش الأميركي العام لإعادة إعمار أفغانستان جون إف سوبكو، إن هذه الخطوة كانت مفتاح الانهيار، معتبراً أن الولايات المتحدة أنشأت قوة دفاع أفغانية كانت تعلم أنها لا تستطيع الصمود بمفردها من دون دعم عسكري.

وأفاد تقرير صدر عن إدارته أن الجيش الأميركي خفض دعمه لقوات الأمن الأفغانية “بين ليلة وضحاها” عقب الصفقة، فتركها بدون قوة مضاعفة في غاية الأهمية، وهي الضربات الجوية الأميركية.

وعام 2019، نفذت الولايات المتحدة 7423 غارة جوية، وهو أكبر عدد منذ عام 2009. أما عام 2020، فانخفض العدد إلى 1631 غارة، نصفها تقريباً نفذ في الشهرين اللذين سبقا الصفقة.

وفي وستمنستر، كانت أفغانستان توتر العلاقات الخاصة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، وتحرض الوزراء ضد القادة العسكريين.

وبلغ التوتر ذروته عندما فشلت واشنطن في مشاركة سلسلة من الملاحق السرية من اتفاقية الدوحة مع المملكة المتحدة. 

وكانت الوثائق السرية، التي قرأتها “طالبان”، تحتوي على تفاصيل حول الإجراءات العملياتية والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب. وبقيت الحكومة البريطانية تجهل محتواها لأشهر.

واستذكر أحد كبار المسؤولين في المملكة المتحدة: “ثمة ملحق في غاية السرية تم التكتم عليه أشهراً قبل التحدث عنه”، مضيفاً أن نيك كارتر تمكن من إقناع الجنرال ميلي بالتطرق إليه.

غياب الخطة البديلة

وأعربت حكومة الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني عن أملها في أن يراجع بايدن خطة الانسحاب الكامل من أفغانستان بعد توليه منصبه. وكان جنرالات كبار يحذرون الانسحاب في الوعد المحدد، مشيرين إلى أن هذه الخطوة قد تخلف تأثيراً كارثياً على القوات الأفغانية.

وكتب قائد القيادة المركزية الأميركية آنذاك الجنرال فرانك ماكنزي عدداً من الرسائل في الخريف والربيع من العام الماضي، محذراً من أن سحب القوات الأميركية على عجلة قد يحدث انهياراً. وفي مقابلة أجريت بعد تقاعده قال: “كان علينا البقاء. نصحت بالحفاظ على وجود محدود لتقديم بعض الدعم للأفغان، لكنها لم تؤخذ في الاعتبار”.

التعليقات معطلة.