ما بين الـ«إس إن إيه»… والـ«دي إن إيه»
الاثنين – 17 محرم 1444 هـ – 15 أغسطس 2022 مـ رقم العدد [15966]
كانت قصة طعن الكاتب سلمان رشدي، نهاية الأسبوع الماضي، في ولاية نيويورك، على رأس قوائم الأخبار العاجلة والمُهمة في الكثير من وسائل الإعلام حول العالم، والتي اجتهدت بدورها في محاولة إلقاء الضوء على تفاصيل الواقعة وتطوراتها وخلفياتها لحظة بلحظة.
وبينما تدافع الصحافيون على المصادر الحية المُتاحة لتوفير معلومات عن مرتكب الواقعة، فور وقوع الحادث، في ظل طلب شديد من الجمهور على معرفة هويته وعلاقاته ودوافعه، لم يكن هناك الكثير ليقال؛ إذ لم تكن التحقيقات تقدمت بما يكفي لسبر أغوار الحادث بعد.
ومع ذلك، فقد ظهرت الأنباء سريعاً لتشير إلى ارتباط ما بين مرتكب الجريمة وما سُمي «التطرف الشيعي وقضايا الحرس الثوري الإيراني»، وهي معلومات نسبتها شبكة «إن بي سي نيوز» الأميركية لما قالت إنه «مسؤول تنفيذي على علم مباشر بالتحقيق»، استناداً إلى تحليل السلطات المبدئي لحسابات المتهم على مواقع «التواصل الاجتماعي».
ولاحقاً، ومع استمرار ظهور الأنباء المتعلقة بالحادث، تبين أن هذه المعلومات سليمة على الأرجح، ومع ذلك، فإن تلك الطريقة في الاستقصاء تطرح تساؤلاً مهماً عن أهمية تفقد حسابات «التواصل الاجتماعي» الخاصة بمرتكبي الجرائم أو المشتبه بهم، وقدرة تلك الحسابات على إجلاء الغموض حول شخصياتهم ومواقفهم، واحتمالات تورطهم في مثل هذه الجرائم، والروابط التنظيمية وغير التنظيمية التي تجمعهم بجماعات أو أشخاص يعكسون دلالات ذات صلة بالعمل الإجرامي.
يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال سترجّح بشكل قاطع أهمية تحليل أنشطة الإرهابيين والجناة والمشتبه بهم على وسائط «السوشيال ميديا»، لتقصّي دوافعهم وروابطهم من جانب، واستشراف إمكانية تورط المشتبه بهم في جرائم إرهابية أو جنائية من جانب آخر.
ولذلك، فقد انتبهت مراكز التفكير المعنية بدراسة الإرهاب والتحديات الأمنية مبكراً لهذا الرابط، وخصصت له الكثير من الدراسات والبحوث، التي اتخذ معظمها منحى ميدانياً، وستبرز ضمن تلك الجهود الدراسة التي أنجزتها جامعة «نوتنغهام ترنت» البريطانية، في العام الماضي، والتي أكدت أن شبكة «الإنترنت» تؤدي دوراً بارزاً في تعميق التطرف، وكشفت عن «زيادة خاصة في استخدام منصات التواصل المفتوحة في تعزيز أنشطة التطرف والإرهاب».
ومن «مذبحة أورلاندو» إلى قتل عشرات المصلين في مسجدَي كرايستشيرش في نيوزيلندا، وصولاً إلى مقتل المدرّس الفرنسي صامويل باتي في باريس، كانت «الإنترنت» ومواقع «التواصل الاجتماعي» جزءاً جوهرياً من التحقيقات التي أفضت إلى نتائج متشابهة، أكدت جميعها الدور الكبير لهما في التحريض والإعداد والترويج لتلك الجرائم. لذلك لم يكن مستغرباً أن تخصّص مؤسسة بحثية مهمة مثل «راند» مبحثاً في دراستها «رصد وسائل التواصل الاجتماعي»، الصادرة في العام 2017، لـ«تحليل الشبكات الاجتماعية» (Social Network Analysis)، بوصفها إحدى أهم وسائل توقع العمليات الإرهابية وكشف أبعادها، وهو التحليل الذي يُرمَز إليه بالحروف الثلاثة «إس إن إيه».
وكما ظهر في التحقيقات التي تلت الكثير من الجرائم الإرهابية الأخيرة، فإن تحليل الـ«دي إن إيه» ظل عاملاً جوهرياً في تحديد الهوية البيولوجية للجناة والمُشتبه بهم، والآن يؤدي تحليل الـ«إس إن إيه» دوراً لا يقل حيوية في تحديد دوافع الإرهابيين وأفكارهم وروابطهم التنظيمية. وفي كثير من الدراسات التي سعت لـ«فهم سلوك الإرهابيين» تم التركيز على هذا المنجم الثمين، الذي يُمكّن السلطات من رصد تفاعلات المستهدَفين بالتحقيق، وتفكيك شفراتهم، وتحديد الحركية اللغوية التي يستخدمونها، وإدراك الكلمات المفتاحية المتعلقة بأنشطتهم الإرهابية.
وفي العام 2016 بدأت السلطات الأمنية في الولايات المتحدة تفعيل استراتيجية أمنية ترتكز على إخضاع طالبي اللجوء لتحليل الـ«إس إن إيه»، ساعية إلى تطوير برمجيات مناسبة للتعامل مع ملايين الحسابات على وسائط «السوشيال ميديا».
وبعد ذلك بعام واحد، بدأ عدد من البلدان الغربية في تعزيز المنظومات التشريعية للتعامل مع هذا الارتباط الواضح بين الأنشطة على الشبكة والعمل الإرهابي؛ مثلما فعلت ألمانيا التي سنت قانوناً، في العام 2017 يقضي بفرض غرامة ضخمة على مشغلي مواقع «التواصل الاجتماعي»، في حال امتناعهم عن الإبلاغ عن خطابات الكراهية، أو رفضوا إزالة المحتويات غير القانونية المبلغ عنها، خصوصاً ما يتصل منها بالتحريض على الإرهاب.
لقد ظهرت فائدة جديدة لـ«السوشيال ميديا» في مساعدة السلطات الأمنية عند التحقيق في الجرائم الإرهابية، وربما في منع وقوعها، عبر حزمة من الجهود الشاقة المُستندة إلى قدرات تحليل التفاعلات الجارية عبرها، لكن يبدو أن تلك الجهود لن تكون كافية أبداً للحد من طاقة الشبكة الكبيرة على رفد الإرهاب والإرهابيين بأسباب النجاح.