عبدالله الأيوبي
ayoobi99@gmail.com
المتاجرة السياسية بالدماء البريئة
هذا الانزلاق الخطير الذي وقع فيه العراق خلال الأيام القليلة الماضية يمكن النظر إليه على أنه بمثابة مقدمة جدية نحو الهاوية التي حذر الجميع من مخاطر الاقتراب منها، لكن أصحاب المصالح الفئوية الحزبية الضيقة لم يعيروا مثل هذه التحذيرات أي اعتبار، ذلك أن أقطاب هذه المصالح لا يهمهم بالدرجة الأولى سوى تأمين المكانة التي آلت إليهم ولأتباعهم من بعد جريمة الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، وهي الجريمة التي وضعت اللبنة الأولى لهرم الفساد الذي ينخر في الجسد العراقي طوال السنوات التي اعقبتها، وهي الجريمة التي ما كان لها أن تحقق هذا القسط الكبير من التدمير الذي تعرض ويتعرض له العراق لو لم يحظ مقترفوها بالدعم والتأييد من هذه الأقطاب التي تتسيد المشهد السياسي العراقي في الوقت الحالي والفترة التي تلت جريمة الغزو مباشرة.
عندما تفتقر، أي قوى سياسية، إلى الرؤية الوطنية الجامعة وتفتقر إلى المرجعية الفكرية الجامعة القادرة على استقطاب الدماء من مختلف المكونات الوطنية، فإن هذه القوى بالتأكيد تفقد البوصلة التي تحدد مسارها واتجاهاتها، وتصبح عاجزة عن التفريق بين المصالح الوطنية الجامعة والمصالح الفئوية الضيقة، لا يغير من ذلك التشدق بالمصطلحات اللغوية الجميلة، أو التغني بالشعارات الوطنية الجامعة، فالعبرة بالتركيب الجوهري الفكري لهذه القوى أو تلك، وما يمر به العراق من محنة سياسية هو تأكيد لذلك، حيث تقف جميع القوى المهيمنة على المشهد السياسي عاجزة عن إيجاد مخرج لهذه المحنة؛ ذلك أن «فاقد الشيء لا يعطيه»، طبعا.
فما شهده العراق خلال الأيام القليلة الماضية من انفلات أمني ربما هو الأخطر الذي تشارك فيه قوى سياسية، يفترض أنها أخذت على عاتقها مهمة «حماية» مصالح الوطن وأبنائه، وأنها الأدوات التي يمكن أن «تبني» عراقا جديدا بعد سقوط نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، لكن الواقع يقول عكس ذلك، وإن الأحداث الأخيرة تؤكد بما لا يدع أي مجال للشك أن هذه القوى إنما هي شريكة، سواء بقصد وبوعي أو بدون، في عملية التدمير التي بدأت في العراق بعد جريمة الغزو الأمريكي، ذلك أن صراعاتها الدموية اضافت زخما كبيرا لزخم المعاناة التي يتحملها العراقيون على مدى أكثر من عقدين من الزمن.
هذه الأحداث خطيرة جدا، حتى إن لم تتسبب في وقوع العراق في الهاوية الدموية الكبيرة، إلا أنها مؤشر على أن هذا البلد ليس ببعيد عن ذلك في المستقبل، فالأوضاع السياسية لا تشير إلى ان القوى المتصارعة على استعداد لتغليب المصالح الوطنية على مصالحها الفئوية الضيقة، أو أنها قادرة على طي هذه الصفحة الدموية التي تسببت فيها ممارساتها السياسية غير المسؤولة، الأمر الذي من شأنه أن يبقي أبواب الهاوية مفتوحة، والأخطر من ذلك أن تتحول الأحداث الدموية الأخيرة إلى ما يشبه البروفة التي تقود إلى ذلك، وهو الأمر الذي يستدعي تحركا مسؤولا وواعيا للخطر الكبير الذي يمكن ان يتعرض له العراق ما لم تكن هناك مراجعة أمينة للأسباب التي أدت إلى ذلك والاعتراف بمسؤولية هذه القوى عن الدماء البريئة التي سفكت، لا لشيء سوى لإشباع النزعات السياسية المتطرفة لأقطاب تلك القوى.
صحيح أن الأحداث الأخيرة لم تجرف العراق إلى الهاوية، والصحيح أيضا أن حالة التراجع والهدوء النسبي التي أعقبت تلك الأحداث لا تعني إزالة المسببات التي أدت إليها، فالخلافات بين «أبطالها» لا تزال قائمة على أشدها، وهوة عدم الثقة فيما بينها تتسع وقد تنفرط أيضا، ومن ثم فإن تهديد السلم الأهلي العراقي يبقى قائما، ليس لأن المسببات لا تزال قائمة فحسب، وإنما لأن «أسياد» المشهد العراقي ليسوا على مستوى إخراج البلاد من المأزق الذي ترفل فيه.
على مدى العقدين اللذين تليا جريمة غزو العراق عجزت جميع القوى السياسية العراقية المهيمنة، ذات الصبغات الدينية والعرقية الطائفية المختلفة، عن أن تكون قاطرة تقود البداية الحقيقية لعراق جديد، بل على العكس من ذلك، فإن تسيدها المشهد السياسي العراقي «زاد من الطين بلة»، وخاصة في ظل انكفاء القوى السياسية العلمانية، اليسارية منها والقومية، عن المشهد السياسي؛ حيث أفلت نجومها التي كانت في فترة من الفترات ساطعة تزين سماء العراق، هذه القوى باتت أرقاما سياسية هامشية على خشبة المسرح السياسي العراقي حيث تعبث القوى السياسية، الدينية والعرقية والمذهبية، على هذه الخشبة من دون وضع أي اعتبار لما تمثله ألاعيبها من آلام ومعاناة للمواطنين العراقيين من جميع المكونات المجتمعية.