اعتقالات في العراق والتهمة “بعثي” ومراقبون: شماعة ودليل فشل
الشخصيات المعتقلة معروفة في محافظاتهم وأحدهم كفيف وآخر عمره 85 سنة وعملية الضبط تمت من دون أوامر قضائية
أحمد السهيل مراسل @aalsuhail8 الثلاثاء 13 سبتمبر 2022 17:45
هيئة “الحشد الشعبي” أعلنت اعتقالها شخصيات يحضرون لاستهداف زوار أربعينية الإمام الحسين في كربلاء (أ ف ب)
عاد الحديث عن “حزب البعث” ليتصدر الأجواء العراقية من جديد بعد أن قالت هيئة “الحشد الشعبي” إنها اعتقلت شخصيات يحضرون لـ”استهداف زوار أربعينية الإمام الحسين في كربلاء“، الأمر الذي أثار موجة تساؤلات عن الغايات السياسية وراء الاعتقال، خصوصاً أنها لم تتم ضمن أوامر قضائية أو بالتنسيق مع بقية الأجهزة الأمنية.
وأثارت تلك الاتهامات لغطاً واسعاً بخاصة أن الشخصيات المتهمة تمثل وجوهاً معروفة في محافظاتهم، وعلى الرغم من ذلك وصفهم بيان الحشد بأنهم “شبكة فاعلة تضم أعضاء وقيادات فروع وشعب”.
تضم قائمة الأسماء التي أعلن عنها أمن الحشد بقيادة أبو فدك المحمداوي أكاديميين وحقوقيين وشيوخ عشائر، بعضهم لديه مواقف مؤيدة لحراك أكتوبر (تشرين الأول) 2019 المناهض للميليشيات، وأبرزهم أستاذ القانون نصير الجبوري (55 سنة).
ويتحدث ذوو الجبوري عن أن مسلحي الحشد الذين اعتقلوه فجر الثامن من سبتمبر (أيلول) لم يكونوا يحملون أوامر قضائية. ووصفوا التهم بـ”المضحكة”، إذ قال ابنه في تصريح صحافي “أنا ووالدي نشارك سنوياً في الزيارة الأربعينية”.
ومن بين المعتقلين الشيخ إقبال دوحان الذي يعلن تأييده لرجل الدين المثير للجدل محمود الصرخي، فيما تشير تقارير صحافية إلى أنه أعمى، بينما يعمل منعم العابدي (85 سنة) محامياً وينتمي للنقابة وهو أمر يتطلب تخطي إجراءات المساءلة.
وتضم قائمة المعتقلين أيضاً الشيخ عادل وحيد البديري الذي يعد أحد الوجوه العشائرية في محافظة الديوانية.
ويبدو أن المعتقلين يحظون بتقدير في مدينتهم وهو الأمر الذي أثار الشبهات حول دوافع عملية الاعتقال التي نفذها الحشد الشعبي، بخاصة أن الجهات الأمنية لم تصدر أي بيان في شأنها، بما فيها مكتب القائد العام للقوات المسلحة مصطفى الكاظمي.
ولعل ما يزيد من موجة السخرية في الأوساط العراقية من استمرار تهم “الانتماء للبعث” هي أن معظم قيادات الحزب المحظور بين ميت أو مهاجر أو طاعن في السن، ولم يعد للحزب تنظيمات في الداخل العراقي أو آليات لاستقطاب أي مؤيدين تحديداً داخل البلاد.
تهمة مستمرة منذ عقدين
لم تتوقف الجماعات السياسية وتحديداً الشيعية منها منذ سقوط النظام السابق عام 2003 وبداية الغزو الأميركي للعراق عن استخدام تهمة “البعث” في أكثر من مناسبة خلال السنوات الماضية، سواء على مستوى الخلافات السياسية والأمنية أو مواجهة عديد من الاحتجاجات الشعبية.
وتستخدم الميليشيات الموالية لإيران بشكل مستمر عبارة “أبناء الرفيقات” كوسيلة إساءة لمناهضي الحركات المسلحة الموالية للمرشد الإيراني علي خامنئي.
ولطالما اقترنت تلك الاتهامات بسلسلة طويلة من الانتهاكات ضد حقوق الإنسان، إذ استخدمت ميليشيات شيعية عدة هذه التهمة في محاولة لتبرير عمليات اغتيال في حق أكاديميين وضباط وطيارين سابقين خلال السنوات الأولى للغزو الأميركي، بحسب مراقبين، فضلاً عن استخدامها أداة لتدعيم سلطة حلفاء إيران تحديداً في أوساط المجتمع الشيعي.
وقال رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في مايو (أيار) 2005 إن الهجمات اليومية الدامية التي يشهدها العراق هي نتيجة “للحقد الطائفي” وإن حزب البعث المحلول مسؤول عنها.
وتوسعت دائرة الاتهامات تلك بشكل أكبر بعد عام 2010 لتشمل حتى الاحتجاجات الشعبية المناهضة للنظام السياسي التي كانت تنطلق في المحافظات الشيعية.
ومثلت فترة حكم رئيس الوزراء الأسبق وأحد حلفاء طهران الرئيسين نوري المالكي أوسع استخدام لتهمة “البعث” بشكل ممنهج، إذ حملت تلك التهمة بين طياتها مساحة واسعة من التصفيات السياسية وتبرير عمليات القمع ضد احتجاجات المدن السنية.
وبالتزامن مع ثورات الربيع العربي عام 2011 اتهم المالكي نشطاء ومحتجي “حراك 25 فبراير (شباط) 2011” بالعمل على “إعادة نظام البعث” على رغم أن غالبية النشطاء كانوا ينتمون إلى الطائفة الشيعية، واتخذت السلطات من تلك التهم ذريعة لقمع المحتجين وتفريق تظاهراتهم.
أما في التظاهرات التي شهدتها المناطق السنية مطلع عام 2013 فاتهم المالكي “البعث وأيتام النظام المقبور” بالوقوف خلفها، مما دفع إلى عمليات قمع وصفت بالأكثر وحشية منذ سقوط نظام صدام حسين، لعل أبرزها عملية اقتحام ساحة اعتصام الحويجة في محافظة كركوك في أبريل (نيسان) 2013 التي خلفت نحو 50 قتيلاً.
ولم تقتصر تلك الاتهامات على عمليات الاعتقال وقمع المحتجين بل روجت أيضاً في مسار الصراع السياسي بين الأطراف المختلفة، حين استخدمت بشكل واسع ضد قائمة “ائتلاف العراقية” التي كان يتزعمها رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي في انتخابات عام 2010 مما أدى إلى استبعاد نحو 500 مرشح.
اقرأ المزيد
- هوشيار زيباري: أخطأنا مع الأميركيين بقرار حل الجيش العراقي وحزب البعث (حلقة 2-3)
- “الحشد الشعبي” يعود من معركة الطعن بالانتخابات فارغ اليدين
- تراجع “الحشد الشعبي” في الانتخابات العراقية بعد أداء سياسي خيب آمال ناخبيه
- الحشد الشعبي يعيد 30 ألف عنصر بتمويل “خاص”
وعلى أثر استهداف قائمته الانتخابية بملف اجتثاث البعث قال علاوي في فبراير 2010 إن حظر خوض مرشحين الانتخابات بتهمة الصلة بحزب البعث الذي كان يتزعمه صدام حسين يهدد بجر العراق إلى أتون حرب أهلية.
واتهم المالكي في أكتوبر 2011 حزب البعث بالوقوف خلف إعلان مجلس محافظة صلاح الدين شمال العراق تصويته لصالح تحويل المحافظة إلى إقليم نتيجة “الاعتقالات في حق أبناء المحافظة والإقصاء والتهميش”، فيما أشار إلى أن “الحزب المحلول يريد أن يكون مسقط رأس صدام حسين ملاذاً آمناً لعناصره”، على رغم دستورية المطلب.
واتهم المالكي أيضاً تظاهرات عام 2015 بالتهم ذاتها على أثر إحراق محتجين غاضبين في جنوب العراق مقار تابعة لحزب الدعوة.
أما خلال انتفاضة أكتوبر 2019 المناهضة لنفوذ طهران فاتهمت الميليشيات الموالية لإيران الناشطين بتهمة “البعث”، حيث قال هادي العامري زعيم تحالف “الفتح” في ديسمبر (كانون الأول) 2020 إن “حزب البعث هو الذي أوجد الأرضية المناسبة لتنظيم القاعدة ولساحة الاعتصامات وتنظيم داعش” وأيضاً مهد لما سماه “فتنة تشرين”.
وأضاف أن “حزب البعث كان ولا يزال وسيبقى هو العدو الأول الذي يهدد العملية السياسية”.
وكان زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر طالب في أكثر من بيان مطلع هذا الشهر بـ”إبعاد الحشد الشعبي من التدخل في تأمين زيارة الأربعين”.
تاريخ دموي
يمثل حزب البعث العراقي واحدة من أكثر الحقب الدموية التي مرت على العراق، إذ دين صدام حسين إضافة إلى عديد من قادة الحزب بجرائم إبادة جماعية من بينها عمليات ما سمي “الأنفال” ضد الأكراد شمال العراق وقمع “انتفاضة” الوسط والجنوب وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية، التي خلفت مئات الآلاف من الضحايا خلال فترة حكم “البعث” الممتدة لـ35 عاماً.
وحزب “البعث” العراقي هو حزب قومي عربي يتبنى الفكر الاشتراكي، وحكم العراق على أثر انقلاب عسكري عام 1968 وظل يحكم حتى سقوط النظام بعد الغزو الأميركي للبلاد عام 2003.
ويعود تاريخ الحزب إلى عام 1947 حين أعلن عن تأسيسه في سوريا على يد ميشيل عفلق الذي عين رئيساً له حينها، إلا أن صدام حسين تمكن من إحكام سيطرته على الحزب بشكل تام، وأعفى أحمد حسن البكر من منصبه ليصبح رئيساً للجمهورية العراقية في يونيو (حزيران) 1979، ويحكم سلطته المطلقة على “البعث”، ومنذ ذلك الحين بات الحزب أحد أبرز المؤسسات البوليسية في البلاد، فضلاً عن تحكمه في كل مفاصل السلطة حتى سقوط النظام عام 2003.
“هيئة اجتثاث البعث”
بعد الغزو الأميركي للبلاد بشهر واحد أعلن رئيس “سلطة الائتلاف الدولي” بول بريمر حل حزب البعث وتشكيل “هيئة اجتثاث البعث”، لمنع تولي قيادات الحزب أي مناصب في الدولة العراقية.
في عام 2005 بعد إقرار الدستور العراقي صدر قانون “الهيئة العليا الوطنية للمساءلة والعدالة” لتحل محل “هيئة اجتثاث البعث” بعد تشكيلها رسمياً عام 2008.
وعلى رغم تشكيل الهيئة وحظر الدستور العراقي “البعث” استمرت قيادات الحزب في إصدار البيانات واتخاذ مواقف من الاحتلال الأميركي، ومحاولة لعب دور في الحياة السياسية من جديد، إذ تم اختيار عزت الدوري النائب السابق لصدام حسين أميناً عاماً للحزب بعد إعدام الأخير في 31 ديسمبر 2006.
ولم يتمكن الحزب من فعل شيء يذكر في السياق السياسي، على رغم إصداره عديداً من البيانات السياسية خصوصاً في السنوات الأولى للغزو الأميركي.
وكان الدوري أصدر بيانات عدة للتعليق على أحداث أمنية وسياسية، فضلاً عن دخول عدد من عناصر الحزب في تنظيم “داعش” أثناء احتلاله المدن العراقية عام 2014، حين أعلن الدوري حينها تأييدهم، لتعود “قيادة الحزب” في ما بعد لإصدار بيان اعتبرت فيه التنظيم “منظمة إرهابية صنيعة قوى الشر”.
دلالة على فشل النظام السياسي
يرى مراقبون أن ثمة إرادة سياسية لإبقاء ملف “المساءلة والعدالة” قائماً حتى بعد عقدين من سقوط النظام لاستغلاله لغايات سياسية، إذ كان من المفترض أن تكون هيئة موقتة لتحقيق العدالة الانتقالية.
ويعتقد أستاذ العلوم السياسية هيثم الهيتي أن استمرار استخدام تهمة الانتماء إلى حزب البعث حتى بعد نحو عقدين من الزمن على سقوط النظام السابق يمثل “دلالة واضحة على فشل النظام السياسي الحاكم”، لافتاً إلى أن تلك التهمة مستمرة لكونها “أسهل وسيلة لتصفية الخصوم وشماعة جاهزة لتبرير الفشل في تقديم أي منجز طوال تلك الفترة”.
ويبدو أن الأطراف السياسية والمسلحة التي “حولت البلاد إلى قرية فاشلة” بحسب الهيتي لا تزال تحاول استخدام “مصطلحات المؤامرة، تارة البعثية وتارة من دول الغرب والخليج، لإثارة عواطف كثير من العراقيين وإشغالهم عن الكم الهائل من الفساد وعمليات القتل الممنهج التي تتهم فيها تلك الأطراف”.
ويتابع الهيتي أن “نظام البعث لم يعد له وجود واندثرت كل معالمه منذ سنوات، وما يجري الحديث عنه الآن يمثل غايات سياسية فحسب”.
ويشير الهيتي إلى أن ما يشاع عن اعتقال بعثيين أو الحديث عن مؤامرات من قبل البعث هو في الحقيقة أفعال تقوم بها الميليشيات لسببين، يتمثل الأول في “محاولة استباق وتخويف أي حراك بالضد من تلك المنظومة بالملاحقة بتلك التهم”، أما السبب الآخر فيرتبط بكونها تهماً “تفقد المتهمين بها التعاطف من قبل كثير من العراقيين إلا أنها لم تعد كما كانت في السابق”.
ويختم بأن “استمرار النظام السياسي في ترويج تلك الادعاءات يعطي انطباعاً واضحاً عن فشل هذا النظام في تقديم شيء للعراقيين، وهو الأمر الذي جعله يدور منذ عشرين عاماً في الحديث عن مؤامرات لا تنتهي لتبرير الفشل في النواحي السياسية والأمنية والاقتصادية”.
حزب لا وجود له
في المقابل يقول الكاتب والصحافي رضا الشمري إن “النظام السياسي الحالي جعل العراقيين لا يثقون بأي من مخرجاته، إذ استخدم القضاء في السياسة بدرجة كبيرة وقراراته لا تخلو من التأثير السياسي”، مبيناً أن هذا الأمر جعل “الثقة مفقودة بشكل أكبر مع القضايا التي تتكفل بها أطراف أمنية ذات انتماءات سياسية كالحشد الشعبي”.
ويعتقد الشمري أن “حزب البعث لم يعد يمتلك أي قوة أو منظومة ذات تأثير تنظيمي أو سياسي”، مشيراً إلى أن “الطريقة التي نفذت بها الاعتقالات من قبل طرف في الصراع السياسي هي مصدر التشكيك الأول بتلك الادعاءات”.
ويتابع “ليس من حق أمن الحشد تنفيذ تلك الاعتقالات وهو الأمر الذي يثير الشبهات خصوصاً مع عدم وجود مذكرات قضائية أو تنسيق مع الجهات الأمنية”.
ويلفت إلى أن تلك الاتهامات ترتبط بسلسلة طويلة من محاولات النظام السياسي بعد عام 2003 “نزع التعاطف الشعبي مع أي طرف يحاول استهدافه”.
ويختم بأن ما جرى من اعتقالات خلال الفترة الأخيرة يمثل “عنواناً خطيراً سيسهل لتلك الجهات عمليات اعتقال مناوئيها سواء أكانت لديها أدلة أم لا”.