1

العراق.. احتجاجات تشرين المُتنازع عليها 

إياد العنبر02 أكتوبر 2022

محتجون في بغداد يرفعون صور زملاء لهم قتلوا في احتجاجات تشرين 2019.

قبل ثلاث سنوات، وفي 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 لم يكن أحدٌ من العراقيين يتوقّع أن يكون هذا التاريخ هو البداية لِكسر حاجز الصمت ومواجهة قوى السلطة ومنظومة حكمها التي أسستها منذ 2003، والتي لم تنتج إلا الخراب والفوضى، وتحوّلت مهمّة حكوماتها إلى إدارة صفقات الفساد وتوزيع موارد الدولة على أحزاب السلطة والنفوذ، ورهن الدولة بأكملها إلى مزاجيات زعامات سياسية وحاشيتها المقربة، وكانت النتيجة تغوّل قوى اللادولة على الدولة وأجهزتها ومؤسساتها ومصادرة وظائفها. 

حتّى جاءت احتجاجات تشرين 2019 ورفعت شعار (نريد وطن)، التي يجب استذكارها بوصفها لحظة فاصلة في تاريخ العراق بعد 2003، لتعبّر عن روحية متمرّدة ضدّ الطبقة السياسية ونظام حكمها، وتكون بداية لِلانتقال من التذمّر والشكوى إلى الفعل الاحتجاجي الذي يطالب بالتغيير. لذلك كانت رمزية احتجاجات تشرين في عدّها حركةً جماهيرية كسرت صنمية زعامات تتفاخر بأنّها لوحدها تحرّك الشارع وقادرة على تحشيده لِلتظاهر.  

احتجاجات تشرين، كانت ولا تزال، كاشفة عن عمق الفجوة بين تفكير قوى السلطة وحاشيتها وزبائنها، وبين تفكير الجمهور. فقوى السلطة رغم أنّها لم تقدّم منجزًا واحدًا يستحقّ الإشادة والاحتفاء منذ تسنمها الحكم، إلا أنّها كانت، قبل هذا التاريخ، تنعم بالرضا عن نفسها في عالمها المُتخيّل وشرعيتها الموهومة على أساس معارضة الدكتاتورية أو جهادها ضدّ نظامه، ومن ثمَّ، باتت تخال نفسها ممثلةً لِلحق المطلَق، والخير المطلَق، وكلّ ما عداها شرّ مستطير! لذلك عدّت التظاهر ضدّ سطوتها على النظام السياسي خدشًا في نرجستيها السياسية، وكلّ حراك احتجاجي لا يكون بزعامتها ولا تحت قيادتها هو بمثابة إعلان تمرّد على مبدأ السمع والطاعة الذي يجب أن يقدّمه الجمهور ولا يفكّر بشيء غيره.  

الجمهور عبّر مِن خلال حضوره في ساحات الاحتجاج عن نوعية جديدة من الفاعلية السياسية، وأوصل رسالةً بأنّ الجمهور المتردد أو الجمهور الصامت هو مَن يملك القول الفصل في قبول هذه الطبقة الحاكمة أو رفضها، وليست الانتخابات التي باتت تعبيرًا عن مواسم تحشّد فيها الأحزابُ السلطوية مواردَها وزبائنَها لتجديد بقائها في الحكم.  

لم تفهم قوى السلطة احتجاجات تشرين، وبقيت تبحث في القواميس السياسية عن مفردات التخوين والعمالة لِلأجنبي، ولكنّها لم تفكر يومًا أنّها رسالة احتجاج عن سوء الإدارة والفشل والفساد، ويجب التعاطي معها من خلال إعادة النظر بالسياسات العامة وتصحيح العلاقة مع الجمهور. إنَّ الحلقة المفقودة في العلاقة بين المجتمع ومنظومة الحكم، كانت ولا تزال، هي الإجماع الوطني الذي يقوم على أساس توافق المجتمع السياسي (أي الجمهور والطبقة السياسية الحاكمة) على منظومة مبادئ وقيم ومعايير، تحكم العلاقة بينهم وتحدد أغراض المؤسسات العامة والطرق المقبولة لحلّ التعارضات والخلافات في حال نشوبها. 

لكنّ قوى السلطة بقيت ترفض الاعتراف أنَّ احتجاجات تشرين تعبّر عن تراكمات الانقسام بين منظومة الحكم والمجتمع، فالنظام السياسي الذي يفتقر إلى الإجماع الوطني لا يمكن إلا أن يكون فوضويًا، منعدم السمات وعديم الاستقرار. 

رغم ذلك، يمكن القول إنَّ استحضار تشرين في ذكراها الثالثة، يجب أن يكون تقويميًا أكثر من كونه احتفاليًا، وكونها حركة احتجاجية شعبية، فإنَّ مشكلتنا الآن تكمن في التنازع عليها بدلاً من التفكير في رمزيتها. ذلك أنَّ القوى التي دخلت انتخابات أكتوبر 2021 بوصفها تمثّل الحركة الاحتجاجية، لم تكن قادرةً على تجسيد مشروع القوى الاحتجاجية داخل البرلمان، وكانت عاجزة عن الانتقال من التفكير الاحتجاجي إلى العمل السياسي الذي يحمل هموم المحتجّين. وغياب المشروع الذي يوحدهم في مواجهة قوى السلطة التقليدية والمحترفة في التسويف والمماطلة، جعلهم في أضعف حالاتهم، ومن ثمَّ انعكس ذلك على ثقة الجمهور بالقوى الجديدة الصاعدة والتي يفترض أنّها تحمل همومَه وتطلعاته.  

المشكلة الأعقد التي واجهتها الحركةُ الاحتجاجية، هي النخب السلطوية الجديدة التي وصلت إلى سدّة الحكم. فحكومة الكاظمي، رغم أنّها جاءت بالتوافق بين زعامات قوى السلطة، إلا أنها وفريقها السياسي كانت تزعم تمثيلها لاحتجاجات تشرين! ما أعطى فرصةً لقوى السلطة بأن تنتقد الاحتجاجات باعتبار أنَّ مخرجاتها الإتيان بحكومةٍ ضعيفة وهزيلة. والنتيجة كانت -وكأنّها المهمّة الرئيسة لحكومة الكاظمي- هي تشويه صورة حركة تشرين الاحتجاجية، والنيل منها من خلال حكومة مُستلَبة الإرادة أمام مافيات الأحزاب والمليشيات وقوى الفساد. 

ومأزق تشرين يتجلّى أيضاً، في الصراع على زعامتها أو تمثيلها، أو حتّى استقطابها من قوى فاعلة في منظومة السلطة والنفوذ السياسي. ولعلَّ مشكلة غياب قيادة واضحة وصريحة لِلحركة الاحتجاجية، جعل الكثير مِن النخبويين، والكثير مِن الطامحين لِلحصول على مناصب عليا في الدولة يقدّمون أنفسَهم كفاعلين رئيسيين في الاحتجاجات، بالإضافة إلى أنَّ الكثير من الشخصيات التي لديها ارتباطات مع أحزاب السلطة تريد التحايل على عنوان الاحتجاجات. وبالنتيجة كانت استراتيجية الحكومة والأحزاب السلطوية التغلغل في الاحتجاجات من خلال تلك النماذج بهدف إضعاف ثقة الجمهور بمن يدّعي تمثيله لِلتظاهرات.  

ورغم تآمر قوى السلطة على احتجاجات تشرين، وتسويفها ومماطلتها في الاستجابة لمطالبها التي رفعتها في ساحات التظاهر، وتخاذل مَن يدّعي تمثيلها أمام مغريات المشاركة في السلطة، لكنّها بقيت وستبقى مِن أبرز محطّات تاريخ العراق السياسي المعاصر، ويكفيها فخرًا أنها رسّخت روحَ التمرّد لدى جيل كامل من الشباب العراقي، إذ تحوّلوا إلى كابوس يؤرق قوى السلطة والحكومات، حتّى وإن تآمرت وخوّنت تلك التظاهرات والناشطين فيها. 

وما بعد تشرين 2019، ما هو إلا تعبيرٌ عن الأعراض المرضية لِنظام الحكم الذي يحتضر ويرفض الاستسلام لِلموت، لأنَّ موته يعني موت القوى السلطوية التي تعتاش بطريقة طفيلية على موارد الدولة، وتريد أن تثبت شرعيتَها بقوّة السلاح المنفلت والتمرّد على الدولة وكلّ من يعارض سطوتها ونفوذها. 

إياد العنبر

إياد العنبر

التعليقات معطلة.