التيار الصدري يخرج من المولد بلا حمص
داود الفرحان كاتب عراقي
وأخيراً تسلم من تسلم في بغداد كراسي رئاسة الجمهورية (الأكراد) ورئاسة الوزراء (الشيعة) ورئاسة مجلس النواب (السنّة)، والثلاثة لا يمثلون أحداً في هذه المناصب سوى الفوضى التي تعمي العيون وموالاة النظام الإيراني.
بعد أيام من هتافات «يعيش» و«يسقط»، وترحيل قدم وتأجيل أخرى، واختراقات صاخبة للمنطقة الخضراء والجسور الزرقاء على نهر دجلة، وتحويل قاعة مجلس النواب إلى مطعم شعبي للفلافل والبيض المسلوق، لم يجد التيار الصدري إلا الحمص الذي طبخه نوري المالكي ولي أمر ما يسمى «الإطار التنسيقي» الذي يضم قواعد «الحشد الشعبي» وكل الميليشيات المنفلتة الموالية للعمائم الإيرانية السوداء.
ما الذي قبضه مقتدى الصدر من أغلبيته البرلمانية المصدومة بقراراته المرتجلة والمتضاربة والمفاجئة والغامضة مثل تقلبات الطقس من الخريف الماضي إلى الخريف الحالي؟ وبدلاً من أن يتشاور الصدر مع نواب تياره الفائزين بـ73 مقعداً، ركب سيارة موكبه الطويل من بغداد إلى النجف للاعتكاف واعتزال العمل السياسي، تاركاً العراق في شلل استغله المالكي وحلفاؤه لالتهام كل المناصب، وليس أمام نواب التيار الفائزين حتى الحمص.
الصوت العالي للتيار الصدري لم يستطع الحفاظ على كرسي واحد في مجلس النواب بعد أن أمر الصدر النواب التابعين لتياره بالاستقالة. ومن تقاليد التيار ألا يناقش الأتباع زعيمهم، لكن هذا لا يمنع أن قرار استقالة النواب أثار تساؤلات في الشارع الصدري عن سبب الاستقالات الجماعية وإهداء الكراسي الشاغرة إلى آخرين معارضين للصدر من «الإطار التنسيقي» بقيادة المالكي.
هل سمعتم في تاريخ برلمانات العالم كلها أن حزباً أو تياراً أو تكتلاً يتصدر أكثرية نواب المجلس يعلن في ساعة خارج الزمن استقالات جماعية وسحب جميع نوابه وأنصاره من داخل البرلمان وخارجه كما فعل النواب الصدريون، حاملين سلال البيض وسندويتشات الفلافل بلا تفسير أو تبرير أو فلسفة.. أو حتى فتوى؟!
لا أعرف ما هي مشاعر السيد مقتدى الصدر، وهو يشاهد عبر التلفزيون منافسيه يتبادلون التهاني والقبل بفوزهم بـ«الجَمل بما حمل»، تاركين التيار الصدري بلا حمص؛ لأنه عزل نفسه بنفسه بعد مشورة إيرانية لئيمة بحجة تلافي القتال الشيعي – الشيعي.
يقال إن أصل المثل الشهير «خرج من المولد بلا حمص» حجازي، ومذهبه صوفي، حيث يحتفلون بذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم كما يفعل جميع المسلمين، فهم يجتمعون في بيت أو ساحة للصلاة ثم يتناولون العشاء يليه تقديم أصناف من «الكرزات» أي «المكسرات» من فستق ولوز وجوز وحمص، ويقال لمن اكتفى بالعشاء ولم يتناول «المكسرات» أنه «طلع من المولد بلا حمص». وهكذا انقضى احتفال التيار الصدري بفوز أنصاره بأكثرية الأصوات، إلا أنه خسرها كلها بعد أن طلب مقتدى الصدر من تياره الانسحاب من عضوية البرلمان؛ قبل تناول الفستق واللوز والجوز والحمص! ووردني وأنا أكتب هذا المقال أن السيد مقتدى الصدر طلب من أكثر من 500 شخص من تياره الاستقالة فوراً وإلا يتبرأ التيار الصدري منهم. وبين هؤلاء وزراء و40 وكيل وزارة و300 مدير عام، وأمين عام مجلس الوزراء ووزير الصحة ومحافظ البنك المركزي ومحافظون وسفراء ومديرو أمن وعمداء كليات ومعاهد وآخرون. وشدد الصدر على رفضه القاطع والواضح لاشتراك أي من التابعين له في التشكيلة الحكومية التي يترأسها محمد شياع السوداني. ومعنى هذا القرار، أن مقتدى الصدر لا يريد أي تعاون بين تياره والحكومة الموالية لإيران التي يُشرف عليها نوري المالكي.
في عام 2017 فاجأ الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند الفرنسيين والعالم بعدم ترشيح نفسه لولاية ثانية في قصر الإليزيه في الانتخابات الجديدة، مع أنه حاز جائزة اليونيسكو للسلام تقديراً لسياساته الدولية في أفريقيا لإنهاء سيطرة المتمردين في شمال مالي وإعادة السلام والاستقرار إلى المنطقة. وأكثر من ذلك أعلن أنه سينتخب إيمانويل ماكرون. وقبل هولاند استقال الرئيس الفرنسي شارل ديغول، المقاوم الكبير في الحرب العالمية الثانية، من منصبه في عام 1969 لأن التعديلات الدستورية التي اقترحها لتطبيق المزيد من اللامركزية في إدارة الدولة، لم تحصل في الاستفتاء الشعبي على التأييد الذي كان يريده.
أطفأ ديغول نور غرفته الرئاسية ومضى راضياً عن نفسه إلى مدينة كولمبي، حيث توفي في العام التالي.
ولو فعل السيد مقتدى الصدر ما فعله ديغول، إذا كان يعرف من هو ديغول، فإن الشعب العراقي كان سيقيم له تمثالاً في مدينة الصدر. لكنه ورّط أنصاره الفائزين في الانتخابات النيابية وغادر «المولد» قبلهم بلا حمص. على الأقل كان هؤلاء سيتصدون لسياسات «حزب الدعوة» عميل النظام الإيراني المكشوف وأنصاره من الميليشياويين الإرهابيين الفاسدين.
بعودة حزب الدعوة إلى الواجهة السياسية الرسمية العراقية مع الحشد الشعبي وميليشيات العامري والخزعلي والخرساني وأكثر من ثلاثين ميليشيا تابعة لـ«فيلق القدس» الإيراني يكون العراق قد عاد إلى نقطة الصفر.. بل تحت الصفر لانعدام أي درجة من المعارضة. وذهبت لافتات «لا شرقية ولا غربية»، التي كان يرفعها أنصار مقتدى، إلى المنازل لتتحول إلى ستائر وأغلفة وسائد النوم كما اعتاد القرويون العراقيون الذين يبدعون في إعادة استخدام لافتات المظاهرات والانتخابات ليناموا على أحلامها في صيفنا اللاهب وشتائنا الزمهرير وحُمّصِنا المفقود.
طهران هي المنتصر الأكبر في العراق بتعيين محمد شياع السوداني من «حزب الدعوة» رئيساً للوزراء بعد أن غطس ملالي خامنئي في مستنقع الاحتجاجات الشعبية طوال الأسابيع الأخيرة التي قادها الشباب من الجنسين في معظم المدن الإيرانية احتجاجاً على مقتل طالبة إيرانية كردية على يد شرطة الأخلاق الإيرانية؛ لأنها خلعت الحجاب وأظهرت شعر رأسها. لقد قدم مقتدى الصدر أعظم هدية للنظام الإيراني في محنته الحالية، بالانسحاب من مجلس النواب وانفراد «الإطار التنسيقي» ونوري المالكي بالسلطة في مجلس الوزراء والبرلمان، بحماية «الحشد الشعبي» والميليشيات العراقية التابعة لـ«فيلق القدس». وكانت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية قد وصفت «الانقلاب» السياسي الإيراني في بغداد باستيلاء «(الإطار التنسيقي) على السلطة بشكل مطلق ما يُعد انتصاراً لإيران وانتكاسة أخرى للمصالح الأميركية في المنطقة».
وأشارت الصحيفة إلى معلومات غير معلنة بأن قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني إسماعيل قاآني كان حاضراً في مبنى مجلس النواب عند اختيار رئيسي الجمهورية والوزراء. وبذلك خرج الشعب العراقي، وليس مقتدى الصدر وتياره فقط، من «مولد» الحكومة العراقية الجديدة بلا حمص ولا بطيخ. ولذلك من حق العراقيين أن يفضحوا إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن بسبب حربه العدوانية وغزوه الأسود للعراق في عام 2003؛ وإخفائه الحقيقة في تلك الجريمة الإنسانية مع شريكه رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير.