نيويورك تايمز: مفاجأة سيئة في عملية “إعادة” فرنسا لـ24 جمجمة إلى الجزائر
نيويورك- “القدس العربي”:
رحبت الجزائر، في وقت سابق، بقرار الحكومة الفرنسية إعادة 24 جمجمة تعود لبعض محاربي المقاومة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي الوحشي، واحتفلت باريس والجزائر بهذه “اللفتة القوية” باعتبارها علامة فارقة في الجهود الساعية إلى إعادة بناء العلاقات، وفقا لصحيفة “نيويورك تايمز”، التي أشارت أيضاً إلى أن مجموعة الجماجم كانت مُخزنة في متحف الإنسان بباريس.
غالبية الجماجم التي أعادتها فرنسا للجزائر تعود إلى مساجين لصوص وجنود مشاة من الجزائريين في الجيش الفرنسي
وقد أعربت الحكومة الجزائرية عن ارتياحها لعملية إعادة الجماجم التي تعود لأبطال المقاومة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي. ونقل رئيس الوزراء الجزائري، أيمن بن عبد الرحمن، هذه المشاعر لنظيرته الفرنسية إليزابيث بورن، أثناء زيارتها للبلاد. لكن الوثائق الصادرة عن المتحف والحكومة الفرنسية، والتي حصلت عليها صحيفة “نيويورك تايمز” مؤخرا، تفيد بأن 6 فقط من الجماجم المعادة كانت لمقاومين جزائريين، ولم يتم التأكد من أصول الجماجم المتبقية.
ويؤكد مراسل الصحيفة في باريس كونستون ميهو، أن ملكية الجماجم بقيت للحكومة الفرنسية حتى بعد تسليمها للجزائر في عام 2020، ولم تعترف أي من الحكومتين بهذه الحقائق في محاولة للحفاظ على المنافع الدبلوماسية التي جلبتها عملية الإعادة، ولكن “العودة المعيبة” كما وصفها التقرير، كشفت عن مشكلة أوسع نطاقاً تتمثل في عمليات الإعادة، التي غالباً ما تكون مشوشة وسرية ولا تصل بالطبع إلى مستوى الطموحات لتصحيح أخطاء الحقبة الاستعمارية.
وقالت السيناتورة الفرنسية، كاثرين مورين ديسايلي ( يمين الوسط)، التي عملت لفترة طويلة على عملية إعادة رفات الموتى، إن القضايا الدبلوماسية سادت على المسائل التاريخية، واعترفت بكل وضوح بفشل العملية.
ولم ترد الحكومة الجزائرية على طلبات التعليق، وفقاً لنيويورك تايمز، ولا يزال بحسبها من غير الواضح سبب قبولها لبعض الجماجم، التي لا تعود لرجال المقاومة، خاصة وأنها كانت تنتقد بعض الجوانب في سياسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تجاه البلاد.
ورفض مكتب ماكرون التعليق، وأعاد توجيه الأسئلة لوزارة الخارجية الفرنسية، التي قالت إن عملية إعادة الجماجم تمت بموافقة الطرفين.
وأشارت الصحيفة إلى أن الموافقة، في الواقع، تمت بموجب اتفاقية وقعتها الجزائر وباريس في 26 يونيو 2020، والتي تضمنت ملحقاً من أربع صفحات يوضح بالتفصيل هويات الرفات، ومن بينهم لصوص مساجين و3 جنود مشاة من الجزائريين الذين خدموا في الجيش الفرنسي.
رفض مكتب ماكرون التعليق، وأعاد توجيه الأسئلة لوزارة الخارجية الفرنسية، التي قالت إن عملية إعادة الجماجم تمت بموافقة الطرفين
وقال العديد من الأكاديميين والمشرعين إنهم يشعرون بالقلق من عمليات الإعادة، التي تفلت من الصرامة العلمية والتشريعية في الوقت الذي تحاول فيه فرنسا تحسين علاقاتها مع الدول الإفريقية من خلال إعادة بعض الأعمال الفنية وبقايا الحقبة الاستعمارية. وأفادت وزارة الخارجية الفرنسية أن الحكومة تعمل على مشروع قانون لتنظيم عملية الإعادة في المستقبل، إلا أن أغلبية البرلمان المؤيدة لماكرون رفضت اقتراحاً لإنشاء مجلس استشاري علمي بشأن التعويضات، ولم يصادق ائتلاف ماكرون في البرلمان على مشروع قانون طرحه نائب يساري الأسبوع الماضي، لإعادة كل الجماجم إلى الجزائر.
واستشهد أعضاء مجلس الشيوخ، إلى جانب العديد من العلماء، بزخرفة عادت مؤخرا إلى مدغشقر، التي لم تحصل على ملكية كاملة للعنصر، مثل الجزائر، بسبب عدم وجود قانون، وأشاروا أيضاً إلى سيف من القرن التاسع عشر تم تسليمه إلى السنغال وإلى تماثيل وعروش عادت إلى بنين في ظل ظروف غائمة مماثلة.
وقال تقرير لمجلس الشيوخ إن عمليات الاسترداد هذه قد نُفّذت “في ظل غموض كبير، مما يعطي الانطباع بأن الأمور الدبلوماسية تفوقت على كل شيء آخر”.
ولا يزال حجم المشكلة غامضاً إلى حد كبير، وفقاً للصحيفة، لا سيما عندما يتعلق الأمر برفات البشر، حيث يحتوي متحف الإنسان على ما يقرب من 18000 بقايا من جميع أنحاء العالم.
وأفاد تقرير سري أصدره المتحف في عام 2008، أنه يضم المئات من الرفات “التي يُحتمل أن تكون موضع نزاع”، والتي يمكن طلبها في المستقبل، وهي تشمل عظاماً تعود إلى زوجة مؤسس إمبراطورية توكولور في غرب إفريقيا في القرن التاسع عشر، وبقايا أمير حرب سوداني حكم جزءا من تشاد في تسعينيات القرن التاسع عشر، وعظام عائلة من الإنويت الكنديين.
وبحسب ما ورد، برزت قضية ” الجماجم” لأول مرة في أوائل عام 2010، عندما بدأ المؤرخ الجزائري علي فريد بلقاضي البحث في متحف البشرية.
ويعود تاريخ جماجم المتحف إلى بدايات التاريخ البشري حتى القرن العشرين، وقد تم جمعها من خلال الحفريات الأثرية والحملات الاستعمارية، ومن بينهم العشرات من زعماء القبائل في غرب إفريقيا، والأمريكيين الأصليين، والمتمردين الكمبوديين.
واكتشف بلقاضي أن المتحف لا يزال يحتوي على جماجم لمقاتلين ومدنيين خلال الغزو الفرنسي للجزائر في القرن التاسع عشر، وتم حفظ الجماجم في صناديق من الورق المقوى، وكان من بينهم قادة المقاومة من معركة الزعاطشة، وهي قرية دمرتها القوات الفرنسية بعنف عام 1849، حيث عُرضت الرؤوس على أعمدة وأعيدت لاحقا إلى فرنسا كـ”غنائم حرب”.
ووصف بلقاضي الاكتشاف بأنه “اكتشاف فظيع يتحدث عن الهمجية الاستعمارية”.
وقام بلقاضي والعديد من الخبراء بحملة لسنوات من أجل إعادة رفات المقاومين الجزائريين، وفي عام 2017، بعد أن قالت السلطات الجزائرية إنها تريد إعادة الجماجم، وأعلن ماكرون أنه وافق على “إعادة جماجم الشهداء الجزائريين”، وشكلت لجنة فرنسية جزائرية لتحديد الرفات التي يمكن إعادتها.
وصف المؤرخ الجزائري بلقاضي اكتشاف الجماجم بمتحف البشرية بباريس بأنه “اكتشاف فظيع يتحدث عن الهمجية الاستعمارية”
وأشارت الصحيفة إلى أن هذه الخطوة كانت رئيسية في جهود ماكرون للمصالحة مع الجزائر من خلال أعمال رمزية للاعتراف بجرائم الاستعمار الفرنسي، ولكن ماكرون كان يسير، أيضاً، على أرض حساسة، إذ لم تكن فرنسا على النقيض من دول أخرى، تحدد سياسة واضحة فيما يتعلق بمجموعاتها من بقايا الحقبة الاستعمارية. ووفقاً لتقرير مجلس الشيوخ، تمت إعادة حوالي 20 مجموعة فقط من الرفات خلال العقدين الماضيين، إلى دول مثل جنوب إفريقيا أو نيوزيلندا، بعد سنوات من المقاومة الشديدة.
وأوضح التقرير أن أحد أسباب ذلك هو أن الأشياء الموجودة في مجموعة الممتلكات العامة الفرنسية تُعتبر ملكا لفرنسا ولا يمكن تغيير الملكية ما لم يتم التصويت على الإرجاع في القانون، وهي عملية مرهقة وتستغرق وقتا طويلا. لكن كلارا بوير روسول، المؤرخة التي درست بقايا الجماجم من مدغشقر، قالت إنه على الرغم من الجهود الأخيرة لمزيد من الشفافية، فقد تم الاحتفاظ بمجموعات الجماجم في متحف البشرية تحت “تعتيم معين” خوفا من أن البحث قد يفتح الباب على مصراعيه أمام طلبات التعويض وإلقاء ضوء قاس على الإرث الاستعماري لفرنسا.