الأرجح أن يصح القول بمحورية جائحة فيروس “كوفيد- 19” كحدث صحي متعدد الأبعاد في السنوات الـ25 الماضية، مع كل التمني بأن تستمر محوريتها على مدار القرن 21 كله، فلا تتكرر.
الأرجح أن يصح القول بمحورية جائحة فيروس “كوفيد- 19” كحدث صحي متعدد الأبعاد في السنوات الـ25 الماضية، مع كل التمني بأن تستمر محوريتها علِى مدار القرن 21 كله، فلا تتكرر.
وربما ليس مبالغة في القول إن لحظة العيش العالمي المعاصر تعبّر عن تفاعلات مكثفة بين ثلاث ضربات تسونامي كبرى.
جاء التسونامي الأول مع الحرب العالمية الأولى وانهيار الامبراطوريات القديمة، بما فيها العثمانية الإسلامية. لقد تبع ذلك الحرب العالمية الثانية ثم نظامها العالمي المستند إلى الدول- الأمم، مكثفاً في تجربة الأمم المتحدة. وتجسّد التسونامي الثاني بانهيار الاتحاد السوفياتي وانطلاق العولمة الأميركية الأحادية التي بدأت خاتمتها الدراماتيكية مع ضربات الإرهاب في 11/9 كحدث مكثف. وتلاه تصاعد الصراع الأميركي الصيني، وتفكّك النظام العالمي المتأقلم مع العولمة.
وبدت جائحة كورونا كجزء من تسونامي ثالث، يصلح الرئيس دونالد ترامب أيقونة واضحة عنه. وتتكوَّن قوى التسونامي الثالث من عوامل ربما أبرزها صعود الشعبوية في الدول الغربية، وهي محمّلة برفض حاسم للعولمة والتهاوي المستمر لتجربة الأمم المتحدة ونظام الدول- الأمم، واستعادة تجارب من التاريخ عن منظومات التجاذب بين منظومة إمبراطوريات تتجاذب النفوذ، سلماً وحرباً، مع قيادة واضحة وحاسمة للولايات المتحدة فيه. وربما يصعب العثور خلال الربع قرن الماضي على حدث يفوق جائحة كورونا في التعبير المكثف التسونامي الثالث، وتقاطعاته مع التسونامين الآخرين.
واستطراداً، قد لا ينافس الجائحة في الدلالة على ذلك التصادم، سوى ربما الحوادث الجارية الشرق الأوسط [الذي ولدت دوله مع التسونامي الأول]، أو العودة التاريخية للرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، والتي قد تشرع فصول موجاتها الزلزالية في الانطلاق بعد 20 يناير (كانون الثاني) 2025.
الأولى منذ قرن لكنها متسربلة بظلام كثيف
ولعل أمنية عدم تكرار الجائحة مثيرة للأسى. ولا شيء أثبتته الجائحة أكثر من الانكشاف المستمر للحياة المعاصرة أمام تكرارها، سواء عبر فيروسات طبيعية أو مصنعة، إلّا إذا حدثت قفزة نوعية في جهود الدول الكبرى حيال منع جائحة جديدة. لقد أحدثت جائحة كورونا شللاً مفاجئاً للحياة في أرجاء الكرة الأرضية. ألا يكفي ذلك لإعطاء أولوية كبرى للوقاية من تعريض الحضارة المستمرة في التطور، لضربة مماثلة قد تأتي أشدّ فداحة وضرراً؟ حتى الآن، لا شيء يدعو إلى التفاؤل.
وحينما انطلقت في أواخر العام 2019، بدت جائحة كورونا متفردة لأنها الأولى منذ جائحة الأنفلونزا الإسبانية (1918) التي رافقت ختام الحرب العالمية الأولى. ولا تتوقف عوامل الفرادة في الجائحة على انقضاء مائة سنة من حياة حداثية متواصلة التطور وخالية من الجائحات، بل تزيد الأسئلة المُعلّقة حولها. وبالتالي، يجدر التذكير ببعض العناصر المتشابكة التي أعطت ذلك الحدث الفيروسي فرادته، بالإضافة إلى السياقات التاريخية العامة التي وردت أعلاه.
وفي السرد التالي، ستتقدم عناصر الغموض على النقاط الواضحة التي سُجّلت بشكل بارز بخصوص الجائحة.
01- حدثت الجائحة حينما قفز فيروس من الحيوانات إلى البشر، لكن لماذا وكيف حدثت تلك “القفزة”؟ وينتمي “كوفيد 19” إلى عائلة كورونا التي تسبب أنواعاً متعددة من الأنفلونزا، بما في ذلك الموسمية منها. لكن “كوفيد 19” حمل ميزة الانتقال من الانتشار بين الحيوانات إلى إصابة البشر الذين لم يتعرضوا له سابقاً، وبالتالي فقد خلت أجسادهم من عناصر المناعة ضدّه.
02- اقتربت البشرية خلال الربع الأول من القرن الحالي، أكثر من مرّة من جائحة تأتي عبر انتقال فيروس من عوالم الحيوانات إلى البشر، لكنها لم تتحول إلى جائحة. ينطبق ذلك مثلاً مع فيروسات “سارس” والطيور والخنازير وميرس وزيكا، و”إيبولا” [الحمى النزفية] وغيرها. إذاً، هل حدث الانتقال بالمصادفة ربما من كلب أكل خفاشاً ثم تجوّل في سوق السمك في مدينة “ووهان” الصينية، قبل أن ينتشر محلياً وعالمياً؟ هل حدث ذلك، بسبب تسرّب من مختبر الفيروسات المتقدم في “ووهان” الذي يعمل بالتنسيق مع مختبرات أميركية مماثلة؟ هل حدث التسرب مصادفة أم بشكل متعمّد، وفق ما راق للرئيس ترامب آنذاك الترويج له، قبل أن يتراجع عن ذلك بضغط المجتمع العلمي الأميركي، خصوصاً الاختصاصي العالمي أنطوني فاوتشي؟
03- ظهرت خلال الجائحة ملامح غير مفسّرة في انتشارها، ولم تظهر إجابات حتى الآن عن ذلك. لماذا انتشرت بسرعة وقوة في الدول الغنية الصناعية، وليس الدول الفقيرة التي يسود توقع “بديهي” بضعف مقاومتها حيال الأمراض والأوبئة؟ ما علاقة نمط الحياة الغربي بانتشار كوفيد؟ ما هي بالضبط الملامح المميزة لنمط الحياة في الغرب التي مكّنت كوفيد من الانتشار فيه؟
أين ذهبت الكلاب والقطط؟
04- خلال الجائحة، حدثت دراسات متفرقة، وبنتائج متفاوتة، عن دور الكلاب والقطط في انتشار فيروس كوفيد وبائياً. وحتى قبل الإعلان رسمياً عن انتهاء الجائحة في 2023، تلاشى إلى الظلال القاتمة، كل ذلك النقاش. لماذا؟
05- أحدثت الجائحة تأثيرات اقتصادية تفوق أعتى انهيارات الأسواق العالمية منذ تبلورها بعد الحربين العالميتين. ووضعت الجائحة حداً، في الاقتصاد، للنيوليبرالية التي صعدت منذ الرئيس رونالد ريغان. وعادت الدولة في الغرب المتقدم إلى التدخّل في الاقتصاد، بشكل واسع. وتدعو الشعبوية التي تساندت مع الجائحة، إلى توسيع التدخّل المستند إلى الهوية [كمقولة الأمن القومي]، للدولة في الاقتصاد. يقدم ترامب نموذجاً مكثفاً عن ذلك، خصوصاً في العلاقة مع الصين التي يدعو إلى توسيع تدخّل الدولة في تفاصيلها الاقتصادية، مع النأي تماماً عن مقولات ليبرالية ونيوليبرالية مثل “اليد الخفية للسوق” و”دعه يعمل، دعه يمر” وغيرها. واستطراداً، ثمة تيار واسع مساند لترامب ينتقد النظام الليبرالي نفسه، وهنالك سردية مناهضة الليبرالية Anti Liberalism تسري في التيار الترامبي.
06- تسببت الجائحة في خلخلة العلاقة بين السلع وقوة العمل والخدمات من جهة، والأموال من جهة ثانية. أدى ذلك إلى تفاعلات ما زالت مستمرة، أبرزها التضخم الاقتصادي، إضافة إلى ظواهر تتعلق بالأسهم والسندات وأشكال متعددة من الاقتصاد غير المالي. وقد تندفع تلك التشابكات إلى آفاق أوسع مع سعي ترامب في ولايته الثانية إلى تعزيز “بيتكوين” لتكون أول عملة مرجعية دولية لا سند لها في البنية الاقتصادية المنتجة كالصناعة والزراعة وحتى الخدمات.