صرخة إدوارد مونخ فوق الجسر تتردد في باريس
معرض إستعادي شامل يعيد إلى فنه ألوانه النيرة ويصالحه مع الحياة
انطوان جوكي الأربعاء 19 أكتوبر 2022 18:36
لوحة من معرض إداورد مونخ الإستعادي في باريس (خدمة المعرض)
في الحداثة الفنية، يحتل عمل النرويجي إدوارد مونخ (1863 – 1944) موقعاً مفصلياً. فبينما تغوص جذوره في القرن الـ19، ينخرط في مشاغله وتقنياته في القرن الـ20. أما الرؤية الفريدة التي يسيرها للعالم فتمنحه قوة نادرة لا يمكن اختزالها بروائعه الشهيرة القليلة التي أنجزها في العقد الأخير من القرن الـ19. فالرمزية التي تبناها آنذاك ما لبث أن ارتقى بها، مؤسساً بذلك لأسلوب جديد يعكس عبقريته ويمنح بحثه الفني كل تماسكه.
هذا ما يتجلى في المعرض الذي انطلق حديثاً في متحف “أورسيه” الباريسي تحت عنوان “إدوارد مونخ، قصيدة حياة وحب وموت”، ويتوق منظموه، من خلال عشرات اللوحات والرسوم والمحفورات، إلى إظهار وحدة عمل هذا العملاق والهواجس الثابتة التي تحكمت به، وفي الوقت نفسه، تنوعه وتجدده الدائم، بالتالي مدى تعقيد هذا العمل الذي لا يزال جزء كبير منه غير معروف كما يستحق، على رغم شهرة صاحبه.
رجل على الجسر كما رسمه مونخ (خدمة المعرض)
وهذا الجهل تحديداً هو ما دفع أحد النقاد الفرنسيين إلى القول بمرارة إن مونخ هو فنان ذائع الصيت ومجهول في آن واحد، تسحقه شهرة لوحة واحدة “الصرخة”. مرارة لأنه حين نتأمل ملياً في ثمار مختلف مراحل مسيرته الفنية، يتبين لنا أن داخل التماسك العميق الذي يربطها في ما بينها، “الصرخة” ليست سوى لوحة من بين لوحات مهمة كثيرة غيرها. تماسك لا تنخرط ضمنه رمزيته الملحة فحسب، بل أيضاً منهج عمله، بتكراراته ومواضيعه المستكشفة بلا كلل.
سيرورة الإبداع
وفعلاً، قادت سيرورة إبداع مونخ الفريدة هذا الفنان إلى إنجاز لوحات عديدة حول الموضوع نفسه، مع اختلافات طفيفة. وفي هذا السياق، أدى مفهوم الدورة (cycle) دوراً رئيساً في بلورة فكره وفنه، إذ يظهر أثره الفاعل في مستويات عدة داخل عمله، بما في ذلك عملية تشييد لوحاته بالذات، إذ تتكرر بعض المواضيع والنماذج بشكل منتظم. وفي بعض الأحيان، عمد إلى استعادة لوحات كاملة وتكبيرها بعد سنوات من رسمها، أو إلى إعادة استنساخ أجزاء منها فقط. وبغية الكشف عن هذه التواترات، اعتمد منظمو معرضه الحالي مساراً موضوعياً لا يعبأ بالتسلسل الزمني للأعمال المعروضة.
شمس مونخ تمحو كآبة العالم (خدمة المعرض)
وعلى مستوى المضمون، يتمحور عمل مونخ عموماً حول موضوع الوضع البشري. ولأن البشرية والطبيعة، بالنسبة إليه، متحدتان في دورة الحياة والموت والانبعاث، طور صورية غير مسبوقة، مستوحاة بشكل كبير من فلسفتي نيتشه وهنري برغسون الحيويتين، وأيضاً من التيار الرمزي الذي تخلى الفنان عن انطباعية بداياته لمعانقة جمالياته، وبقي وفياً له طوال مسيرته الفنية التي دامت 60 عاماً.
أما لفهم سبب تحول مونخ إلى فنان العذابات الداخلية والقلق الوجودي والعزلة المحتومة للكائن البشري، فلا بد من العودة للظروف العائلية التي اختبرها منذ نعومة أظافره، وأقل ما يمكن أن يقال فيها هو أنها غير اعتيادية وصادمة. ظروف لخصها بجملة معبرة يقول فيها “المرض والجنون والموت هم الملائكة الذين انحنوا على مهدي”. وفعلاً، بعد وفاة أمه بمرض السل، وكان في سن الخامسة، حرمه هذا المرض من أخته الكبرى في سن الـ13، قبل أن يغيب الموت شقيقه إثر التهاب في الرئتين. وكما أن ذلك لا يكفي، ما لبث أن فقد أيضاً أخته الصغرى إثر إدخالها إلى مصح عقلي لازمته حتى وفاتها.
واقع مأساوي
وينعكس هذا الواقع المأسوي داخل لوحات مونخ الشهيرة، حيث تنبثق وجوه موتاه وتفضي إلى مواضيع قاتمة متكررة، كالوجه الشاحب العليل وطقس السهر على الميت. أما اكتئاب الفنان بالذات الذي قاده إلى المصح أكثر من مرة، فتتجلى آثاره من خلال تلك الشخصيات التي تبدو في بعض أعماله سجينة أمكنة مغلقة وخانقة، يطغى عليها حزن ملموس.
حيرة أنثوية (خدمة المعرض)
لكن أهمية معرض مونخ الحالي تكمن في عدم اكتفائه بمقاربة هذا الجانب المعتم من معاشه وتداعياته داخل فنه، كما درجت العادة. إذ تنتظرنا أيضاً داخله مختارات واسعة من اللوحات التي قارب فيها موضوع الحب ومشاعره. أعمال، حتى حين تناول فيها العقبات التي تحول دون تفتح علاقة غرامية أو ديمومتها، تظهر فيها نزوة الحياة بقوة من خلال التنوع اللافت لألوانها. ألوان تشكل في حرارتها وجانبها النير، وأيضاً في الخط الحيوي المبسط الذي يحملها وينشرها، نقيض الألوان الداكنة في اللوحات الأخرى.
وهذا ما يقودنا إلى قناعة مركزية لدى مونخ يتعذر تجاهلها على من يرغب في فهم عمله الفني ككل، ومفادها بأن الحياة عبارة عن دورة في حال تحول دائم، وفي قلب الحياة، الطبيعة التي افتتن بها ولجأ إليها غالباً للتعبير عن عواطفه. فحين لا تحضر في عمله مظللة بسماء ملبدة وخطوط قاتمة، تبدو كمصدر راحة وانخطاف، كما في لوحة “الشمس” التي يغمر النور كلياً مشهدها، أو كمصدر سعادة بريئة، كما في لوحة “فتيات على الجسر” التي تنيرها فساتين شخصياتها البيضاء أو الحمراء وتدرجات اللون الوردي للجسر وانعكاسات الماء تحته.
اقرأ المزيد
- لماذا ما زلنا نصرخ إعجابا بإدفارد مونخ؟
- فنانون جمعتهم “صرخة” مونخ وفرقتهم “نساء” كيرشنر
- إدوارد مونخ صاحب “الصرخة” يودع أحزانه في “رقصة الحياة”
يبقى أسلوب مونخ، الفريد جداً، الذي صقله على طول مسيرته وجعل منه الأداة والركيزة للتعبير عن مشاعره وحالاته النفسية المتباينة، وهو ما يفسر إدراج بعض النقاد فنه ضمن التيار التعبيري، بخلاف نقاد آخرين يعتبرون أنه أقرب إلى الجمالية الرمزية منه إلى الجمالية التعبيرية. والحقيقة في نظرنا تكمن بين هذين الموفقين تماماً، فمونك رمزي وتعبيري في الوقت نفسه. رمزي في حصيلة رسمه، وتعبيري في دوافعه وهواجسه ومواضيعه، وخصوصاً في بورتريهاته الذاتية التي سعى فيها إلى الكشف عن هشاشته وإسقاط شكوكه الوجودية. لوحات رائعة، نذكر منها “المتنزه الليلي” التي يبدو الفنان فيها تائهاً سواء بوضعيته أو بثيابه أو بنظرته، و”ليلة أرق” التي يعكس فيها تعبه الواضح والسديم الذي يحيط به عذابه الداخلي، من دون أن ننسى البورتريه الذاتي الأخير الذي يحضر الموت فيه على شكل عجوز تتحول ثيابه إلى هيكل عظمي.
نشير في النهاية إلى أن لوحة “الصرخة” التي أنجزها مونخ عام 1893، وتحولت بسرعة إلى واحدة من أشهر أيقونات الفن، وربما أشهرها، غير موجودة في معرضه الحالي، الذي يتضمن نسخ مغايرة عنها. غياب نستشعره لدى تنقلنا من صالة إلى أخرى، قبل أن نعي أن ثمة صرخة في كل واحدة من لوحاته: صرخة ألم أو صرخة ابتهاج، فنفهم أنه علينا التوقف عن سجن هذا العملاق داخل صورة الرسام الملعون، وتقبل حقيقة أنه عاش وسعى خلف نشوات الحياة، على رغم قسوة قدره.