أزمة بريطانيا: انتصار النيوليبرالية على الديمقراطية
عندما أعلنت رئيسة الوزراء البريطانية ليز تراس في شهر سبتمبر (أيلول) الماضي ميزانيتها المصغرة المضمرة لمنطق الحرية الاقتصادية المطلق، لم يتوقع أحد نتائجها؛ هبوطاً في الجنيه، وارتفاعاً لفوائد سندات الخزينة، واهتزاز صناديق التقاعد، وصعوداً كبيراً للتضخم. كان السبب وراء غضب السوق، أن الميزانية انطوت على زيادة كبيرة للديْن العام، ومن دون تبيان كيفية تسديد هذا الدين؛ بهذا ظهر أن السوق لا تحبذ الاستدانة لتخفيف أعباء المواطنين، وبالتالي لا ترضخ للديمقراطية ومطالبها. لم تستطع تراس أن تبقى في السلطة لأكثر من أسبوعين، وخَلَفها ريشي سوناك القادم من عالم المال والعارف بالسوق وقوانينها؛ وفور إعلان انتخابه تراجعت الفوائد على السندات الحكومية، وعاد الجنيه إلى الصعود تدريجياً، وتنفس البنك المركزي الصعداء، وبدأ الحديث لا عن الاستجابة لضائقة الناس، بل عن كيفية تخفيف الديون عبر سياسات تقشف على الخدمات العامة، واحتمال فرض ضرائب جديدة على مواطنين يعانون من ارتفاع المعيشة، وأسعار الطاقة، وتدني مستوى الصحة، والتعليم. وكما هي العادة، فإن الشعار الذي حمله رئيس الوزراء: معاً في الأزمة وجميعاً نحمل تبعاتها؟!
قبل هذا وقعت أزمة مالية أكبر عام 2008 وكان المتضرر منها المصارف والمؤسسات المالية، لكن الحكومة العمالية برئاسة غوردن براون آنذاك تدخلت بسرعة وقالت، إن البنوك كبيرة جداً لدرجة لا يُسمح لها بأن تفلس لأن ذلك يستتبعه ضرر كبير على الجميع؛ فاشترت الدولة البنوك الخاسرة، ثم شغّلت تلك البنوك، وبعد تمكنها من تجاوز الأزمة باعتها إلى السوق بأسعار أقل لرجال المال وعلى حساب دافعي الضرائب؛ هكذا انتصرت السوق على الديمقراطية، لأن المواطن إن أفلس لا تنقذه الدولة، بل تتركه تحت شعار قانون السوق. ويبدو أن قانون السوق له أولوية على المواطن، وعلى المجتمع، وأن مصلحة السوق لا يحددها سوى من يدير السوق، وهم نخبة قليلة لم ينتخبهم أحد إنما هم عملياً أصحاب القرار، وإذا ما خالفهم رئيس منتخب لن يكون مصيره أفضل من ليز تراس، أو من الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران عندما اضطر إلى أن يتراجع أمام السوق لدى محاولته تأميم سبعة قطاعات صناعية مهمة بالإضافة إلى قطاعات التسليف والتأمين؛ آنذاك تعرض ميتران لهجوم عنيف من السوق ومن الإعلام، تماماً كما تعرضت ليز تراس.
ومن ميزات السوق في عصر النيوليبرالية الاقتصادية، أنها خرجت من الإطار المحلي إلى العالمي، باحثة عن موارد جديدة، وعن عمالة رخيصة، وأسواق جديدة، وبخروجها تعاملت مع الأسواق الخارجية ونخبها، فكان التطابق العالمي في نخب السوق، ليكونوا على أرض الواقع قوة صلبة لا يمكن على الإطلاق مواجهتها؛ والسبب أن تلك النخب الاقتصادية متداخلة مع النخب السياسية، وكلتاهما تشكلان السلطة التي تتحرك وفق مصالح السوق تحت ذريعة أن معاداتها ستضر بالمواطن والوطن؛ ولهذا قالت رئيسة الوزراء السابقة تريزا ماي، إن هؤلاء النخب لا ينتمون إلى أرض، بل هم رُحلٌ يبحثون عن الربح والمال. هذه النخب بالذات بهيمنتها على القرار السياسي في الدول الديمقراطية ساهمت في ظهور الشعبوية التي هي الأخرى أكثر تدميراً للديمقراطية؛ لأنها تعطي للرعاع دوراً أكبر في رسم سياسات الدولة، والرعاع، كما يقول أفلاطون، هم بلاء الديمقراطية ومرضها.
إن النيوليبرالية الجديدة من سماتها الحديثة، أن عالم المال (الرأسمالية) والعالم الرقمي يهيمنان على العالم هيمنة لا مثيل لها في التاريخ؛ فالبنوك كمؤسسات إقراض أصبحت هي المالكة للمصانع الإنتاجية وبذلك انقطع الفصل بين قطاعي المال والصناعة وأصبحا كتلة واحدة متحكمة في كل شيء. في عالمنا اليوم توجد مؤسسات مالية لا يتجاوز عددها أصابع اليد تدير أموالاً هائلة مثل صناديق التقاعد، لدرجة أن شركة واحدة هي «بلاك روك» يبلغ أصولها عشرة تريليونات دولار ولا يتغلب عليها سوى الصين وأميركا في ناتجهما القومي؛ وللتدليل أكثر، فإن أكبر عشر شركات إدارة صناديق الاستثمار يصل مجموع أصولها إلى 144 تريليون دولار، وهو ما يعادل الناتج القومي السنوي لكل من الولايات المتحدة والصين واليابان وألمانيا؛ وأصحاب هذه الأموال والشركات قادرون على تغيير تفكير مواطني العالم بما لديهم من قدرات هائلة في المال والمعرفة الرقمية؛ فيكفي أن نعرف أن شركتَي «غوغل» و«تويتر» تسيطران على أكثر من 82 في المائة من الاتصال المعرفي، وبالتالي تحصدان أرباحاً لا سابق لها ودونما أي اعتبار لما يسمى المساوة في المجتمع. هذه السوق تذكرنا كثيراً، وإن بخفاء، بعصر الرأسمالية الاستعمارية المتوحشة.
هذه الرأسمالية المالية النيوليبرالية قادرة بالفعل على توجيه الرأي العام، وعلى الهيمنة على أكثرية السياسيين، وقادرة حتى على تدمير بلد أو إنعاشه؛ وبهذه القوة تصبح الديمقراطية بلا مفعول إنما واجهة لا غير لاستبدال فلان بآخر إذا ما ثبت أنه لا يقوم بواجبه، أو أن وجوده، وإنْ قام بواجبه، لم يعد ذا مصلحة لأصحاب المال. وثبت أيضاً أن هذه النيوليبرالية حرَّفت الصراع من كونه صراعاً طبقياً بين كادحين ومحرومين ومستغلين إلى صراع حول الهوية، والعرق والإثنية، وكراهية الغرباء؛ بهذا أبعدت الأنظار عن استغلالها، ونصّبت نفسها حكماً على الجميع لما تملكه من قدرات مالية هائلة ومعرفة تكنولوجية تمكّنها من الوصول إلى دماغ أي مواطن وحتى قولبته كما تشاء. وهكذا، فإن اليسار أصبح مشلولاً وغير قادر على تصور بديل لأن آيديولوجيته كانت تستند إلى مقولة ماركس بالصراع الطبقي، وهذا الصراع لم يعد موجوداً، أو على الأقل أصبح مهمشاً مقابل الصراعات الإثنية والعرقية والثقافية.
إن بريطانيا في أزمتها الأخيرة تجسد مثالاً حياً لتغلب السوق على الديمقراطية، والحكومة البريطانية أمام امتحان خطير؛ إما أن ترضخ للسوق لتحافظ على نفسها وعلى الاستقرار المالي، وإما أن تستجيب للديمقراطية وتفتح على نفسها صندوق الشرور.