1

نظرة ثانية على “تاريخ الحروب الصليبية” من الشرق الأدنى إلى رحابة الشرق وآسيا

رينيه غروسيه عرف دائماً بنوع من الموضوعية ونراه يسهب في الحديث عن شعوب المنطقة ولا سيما عن مسيحييها مؤكداً أن معظم هؤلاء ساند العرب والمسلمين

إبراهيم العريس باحث وكاتب  الخميس 10 نوفمبر 2022 2:46

الحروب الصليبية في الفن التشكيلي (موقع غيتي)

لعل الإجحاف الذي يتعرض له المؤرخ الفرنسي رينيه غروسيه في هذا الزمن الجاحد، هو ما يدفعنا إلى العودة إليه وإلى إنتاجه الفكري، وهذه المرة إلى كتابه “العمدة” لمناسبة مرور 70 عاماً على رحيل هذا المؤلف الفذّ الذي أقل ما يمكننا أن نقوله عنه إنه كان واحداً من أوائل المؤرخين الأوروبيين الذين عرفوا كيف يعيدون الاعتبار إلى النظرة العربية تجاه تاريخ الحروب الصليبية. فقبل إصدار الكاتب اللبناني أمين معلوف كتابه “الحروب الصليبية كما يراها العرب” بالفرنسية، وللقارئ الفرنسي، وهو الكتاب الذي يُنظر إليه اليوم باعتباره المرجع الأساس للتأريخ لتلك الحروب، كانت هناك شكوى دائمة لدى المثقفين العرب من أن صورة الحروب الصليبية لا تصل الى الفرنسيين والعالم الغربي، إلا من خلال أقلام أوروبية اعتادت، منذ الأزمان السحيقة أن تتحامل على التاريخ العربي وتصور المسلمين بالصورة التي كان دعاة الحملات الصليبية يصورونهم بها لتبرير غزو الشرق.

كتاب.png

رينيه غروسيه (1885 – 1952) (ويكيبيديا)

صورة سائدة

واللافت أن تلك الصورة ظلت سائدة حتى القرن العشرين بل حاضرة في الأذهان على رغم مؤلفات عديدة، وحتى بشتى اللغات الأوروبية، تبدت منصفة للعرب والمسلمين لتتكاثر خلال النصف الثاني من القرن العشرين. ولقد اتسمت تلك المؤلفات بطابع يتراوح بين الموضوعية والانحياز المطلق للمسلمين، ومنها مثلا كتاب أساسي للمستشرق الإيطالي فرانشيسكو غابرييلي، ولا شكّ أن أمين معلوف قد سار على خطاه في تبني كتابه “العمدة” وجهة نظر عربية ومسلمة. ولكن في المقابل، دائماً كان هناك استثناء مبكر ينتمي إلى القرن العشرين يمثله المؤرخ الفرنسي رينيه غروسيه، الذي، حتى وإن لم تنقل آثاره التاريخية باكراً الى لغة الضاد، عرف دائماً بنوع من الموضوعية، وليس فقط في تأريخه للحروب الصليبية، بل في عمله الدائب والمتشعب على التأريخ للشرق عموماً، ولأقاصي آسيا أيضاً. أما بالنسبة الى الشرق الأدنى، فإنه قيل دائماً منذ اكتشاف غروسيه، وعمله الشامل، إنه يبقى دائماً خير من أرّخ على الأقل للحروب الصليبية كتتويج لجهود مذهلة قام بها بحثاً واستقصاء وكتابة، من المؤسف أنها لم تجد صدى لها لا لدى أهل النخبة العرب ولا طبعاً لدى القراء العاديين.

موضوعية في ثلاثة أجزاء

ولعل موضوعية غروسيه في عمله فائق الأهمية هذا، تبدأ من العناوين التي اختارها لأجزاء الكتاب الثلاثة. فهو عنون الجزء الأول من كتابه الضخم “الفوضى الإسلامية والمملكة الفرنجية” (لاعباً على اللفظ الفرنسي المتقارب النطق لمعنى كلمتي فوضى ANARCHIE ومملكة MONARCHIE)، فيما عنون الجزء الثاني “المملكة الفرنجية والمملكة الإسلامية: التوازن”، ليصل إلى الجزء الثالث ويعنونه “المملكة الإسلامية والفوضى الفرنجية”. وهكذا، من العناوين، حدد المؤرخ خط الصعود الذي عاشه الجانب الإسلامي من الفوضى إلى استتباب المملكة، محدداً في المقابل، في الوقت نفسه، وبشكل طردي، خط الهبوط الذي عاشه الفرنجة في المنطقة. والحقيقة أن أجزاء الكتاب الثلاثة تشتغل انطلاقاً من هذا الترسيم وتشرحه وتؤرخ له، في لغة لا يلوح عليها أي أثر لتحامل على المسلمين. إنه التأريخ الموضوعي في أفضل تجلياته، يمكننا أن نقول. والحال أن غروسيه، وعلى طول كتابه، حرص على أن يفرد فصولاً وصفحات عديدة للإسهاب في التوقف عند ما كان مهملاً من قبل المؤرخين الغربيين من قبل، أي ردود فعل شعوب المنطقة على تلك الحروب، بحيث كانت النتيجة توضيحاً، للمرة الأولى في التاريخ، لما كان غامضاً من قبل، ويشكل ثغرة في فهم التاريخ الحقيقي للمنطقة، حيث دائماً ما كانت المصادر الغربية تتجاهل حياة السكان وتطلعاتهم مكتفية بتشويه صورة الحكام المحليين بشكل يبدو الأمر، وكأن الصراع كان قائماً بين مسلمين وصليبيين يقومون بإنقاذ المنطقة من براثن الفساد والصراعات الصغيرة وصولاً إلى إنقاذ الأقليات المحلية وفي مقدمّها طبعا الأقليات المسيحية العربية من فساد حكامهم المسلمين الذين غالباً ما يتمّ التركيز على كونهم هم بدورهم غرباء عن المنطقة حتى لو اعتنقوا إيمانها. ولعلّ المهمة الأولى التي قام بها غروسيه في هذا المجال، كمنت في أن يقول بوضوح وبلغة علمية موثقة إن ذلك الزعم لم يكن صحيحاً، وبالتالي نراه في معرض بحثه يسهب في الحديث عن شعوب المنطقة ولا سيما عن مسيحييها مؤكداً أن معظم هؤلاء قد ساند العرب والمسلمين ضد الصليبيين في مراحل كثيرة من زمن الحملات.

الممالك الفرنجية بين الدين والدنيا

كذلك، فإن كتاب غروسيه لم يكتف بأن يكون تاريخاً للحملات الصليبية، بل إنه تجاوز هذا ليرسم صوراً بارعة لاستقرار الممالك اللاتينية في هذه المنطقة من العالم، ولا سيما للتأريخ لمملكة القدس. وهكذا نراه في الجزء الأول ينطلق من دراسة الحملة الأولى (1096-1099)، التي كانت في الوقت نفسه، وكما يصف لنا في الكتاب، حملة شعبية قادها وموّلها سادة أوروبيون من كبار النبلاء والأعيان، وأدت الى تأسيس مملكة الفرنجة في القدس وهي المملكة التي شهدت العدد الأكبر من الصراعات داخل صفوف الصليبيين أنفسهم، إذ بعد الحملات الأولى بالوصول إلى الديار المقدسة وانتزاعها من “براثن الكفار أعداء المسيح”، وكما يحدث عادة في مثل تلك الظروف، تحول “الفتح” الصليبي إلى احتلال لمناطق بات من الواضح أنهم طارئون عليها ولا سيما بالنسبة إلى المسيحيين المحليين الذين راحوا يكتشفون بالتدريج أن من أتاهم باسم المسيح إنما أتاهم في نهاية الأمر كمحتل يتطلع إلى المكاسب المادية لا إلى الشؤون الإيمانية.

اقرأ المزيد
  • يوم غير غروسيه نظرة الغرب إلى الحروب التي خدعته باسم الدين
  • مارسيل شووب يسخر من الحملات الصليبية في تحفة أدبية
  • فيرونيزي يرسم الإسكندر في لحظة أرسطية تتلاقى مع وصف بلوتارخ له

الاحتلال والثقافة

أما الجزء الثاني من كتابه، فيخصّصه غروسيه للحقبة التي تمتد من زمن توطيد الاحتلالات حتى زمن الاخفاقات الأولى التي مني بها الصليبيون، ما خلق نوعاً من توازن القوى وجعل مملكتين أساسيتين تتجابهان نداً للند، المملكة الصليبية والمملكة الإسلامية، مكرراً، مرة أخرى، نظرته إلى المساهمات التي قامت بها النخب المسيحية لدعم المملكة الإسلامية مستنداً هنا بشكل خاص إلى الصورة التي قدّمها الأمير السوري أسامة بن منقذ، في كتابه “الإعتبار” لفكر عربي نيّر ومتسامح جابه الصليبيين وتطلعاتهم المادية التي جعلتهم في نهاية الأمر يخسرون المعركة أمام عدو لم يقدّروه حقّ قدره أول الأمر. وهنا في هذا السياق بالذات، لا يفوت غروسيه أن يتوقف عند علامات أساسية تنمّ عما كان عليه الفكر العربي في تلك الآونة مقابل خلوّ الساحة الصليبية من أي وجود فكري أو ثقافي يمكن الاعتداد به. ولنفتح هنا هلالين لنشير إلى أن كثراً من المؤرخين ينظرون إلى إنجاز غروسيه في هذا المجال بكونه ينهل من فكر تاريخي يلتقي بصورة مبكرة مع المفاهيم التاريخية التي ميزت مؤسسي جماعة “الحوليات” في تأريخهم على المدى الطويل الذي يربط التاريخ بالجغرافيا مروراً بالتاريخ الاقتصادي وتاريخ الذهنيات.

المسلمون يستعيدون المبادرة

أما في الجزء الثالث، فإن المؤرخ يتوقف ملياً، ومن دون ضغينة بالطبع، عند المرحلة التي استعاد فيها المسلمون قوتهم ووحدتهم في مواجهة الخطر، استعادة أدت الى انتصارهم على الصليبيين، إذ بات هؤلاء منقسمين على بعضهم البعض بفعل معارك داخلية، وغير قادرين على الحفاظ على مكاسبهم. وانطلاقاً من هنا، أرّخ غروسيه بشكل خلاق للتدهور الذي أصاب الفكرة الصليبية نفسها ملتقياً مع الفكر “الخلدوني” الذي يشتغل من ضمن ما يشتغل عليه، انطلاقاً من المبادئ العامة التي تتناول سقوط الحضارات وتحديداً في ظل لعبة الـتحدي والاستجابة التي ميزت كتابات أرنولد توينبي التاريخية. ولعل هذا البعد المزدوج، الذي نهل منهجياً من توينبي كما من إبن خلدون، يشكل واحدة من المساهمات الكبرى لرينيه غروسيه (1885 – 1952) الذي يمكن اعتباره واحداً من كبار المؤرخين الأوروبيين في القرن العشرين. ولكن كذلك، واحداً من كبار مبتكري المناهج الجديدة في كتابة التاريخ، هو الذي أمضى الجزء الأكبر من سنوات حياته يشتغل بخاصة على تواريخ آسيا والشرق عموماً، وأصدر خلال ما لا يزيد عن ربع قرن مؤلفات بالغة الأهمية، إلى جانب “تاريخ الحملات الصليبية ومملكة القدس الفرنجية” (1934 – 1936)، كتباً تعتبر اليوم مراجع أساسية في التأريخ الشرقي والآسيوي مثل “حضارات الشرق” و”إمبراطورية السهوب” و”إمبراطورية الشرق الأدنى” و”الإمبراطورية المغولية” و”الملحمة الصليبية” و”تاريخ الصين” و”تاريخ آسيا” و”تاريخ الشرق الأقصى”. وكلها مؤلفات ينطلق منها حتى أي تجديد يضاف إلى تواريخ تلك المناطق من العالم.

التعليقات معطلة.