ماذا تعلمت البشرية من دروس جائحة كورونا؟
اعتراف مهادن بمحدوديّة الوجود الإنسانيّ وخطيئة الإهمال
مفكر لبناني الخميس 10 نوفمبر 2022 14:21
ماذا تعلم البشر من كورونا؟ (اندبندنت عربية)
يعلم الجميع أنّ الإنسان مفطورٌ على النسيان، وأنّ الذاكرة لا تستطيع أن تحتفظ بجميع المعطيات الوجوديّة، بل تَعمد بين الحين والآخر إلى التنقية والتشذيب والتصفية. قد يكون للنسيان بعضُ الفوائد، إذ يُعفي الناسَ من اجترار الماضي الأليم ويجعلهم يثقون بالغد المشرق. لذلك يجوز وصفه بالفضيلة النافعة. بيد أنّ الإعراض عن الاتّعاظ بأمثولات التاريخ يجعل النسيانَ في الوقت عينه خطيئةً لا تُغتفر، ويُلقي بالإنسان في لجّة الاستهتار المهلك. أعلمُ أنّ تاريخ البشريّة حافلٌ بالمآسي المروّعة، وأنّ الناس نسوا أو تناسَوا أهوال الكوارث والحروب والجوائح والإبادات. فطفقوا يعيدون مسلسل الأحداث عينها، ولكن في قرائن مختلفة وبواسطة أدوات جديدة. غير أنّ واقعيّة الاعتراف بخطيئة الإمعان في الإهمال لا تُبطل واجب التذكير الأخلاقيّ.
انعطاب الكائن الإنسانيّ: علاقة الإنسان بذاته
اختبر الناس في جائحة كورونا جميعَ أصناف العذاب والألم والمرض والعزلة والخوف والقلق والانعطاب الكيانيّ. فنهضوا يؤازرون بعضُهم بعضاً، وراحوا يتضامنون في نجدة المعزولين والمرميّين في الشوارع والمنهكين المتروكين أمام أبواب المستشفيات. أحسّ جميعُنا أنّ الخطر يداهم الأرض كلَّها، وأنّ الناس سواسيةٌ في المصير الواحد، وأنّ ساعة العالم قد أزفت. فتكاثرت الخطب والمواعظ، وتنوعّت التعزيات والمرافقات، وتطوّرت وسائل الاتّصال، وتنامت قدرات الفهم والاستيعاب.
هل صنع كورونا في المختبرات؟ (أ ف ب)
فضلاً عن هذا كلّه، شعر الناس بأنّ الأمور نسبيّةٌ في جوهرها، وبأنّ القضايا الخلافيّة تافهةٌ في أسبابها، والحياة قصيرةٌ في مداها، ومقاصد الوجود تُشوّهها الإعلانات المزيَّفة والسباقات الموتورة في سبيل الاستزادة والاستهلاك. فسارع كثيرٌ منّا إلى التأمّل في أساسيّات المعنى الأشمل الذي ينبغي أن نبحث عنه حتّى نمرّ على هذه الأرض التي استعاد لها بعضُ المتصوّفين صفة “الفانية”. فإذا بالناس يتحسّرون على الوقت الضائع، ويتأسّفون على الفرَص الفائتة، ويتندّمون على المواقف المتشنّجة. أمّا اليقين السائد، فالقول بضرورة الاتّعاظ واستعادة زمام المبادرة واستنهاض الهمَم من أجل تغيير المسلك الحياتيّ الأشمل. من جرّاء الصحوة الوجوديّة الأخلاقيّة هذه، أدرك الناس أنّ مسؤوليّتهم تقتضي الإسراع في استنقاذ البشريّة من المصير الأسود الذي يتربّص بها.
قبل الجائحة، كان معظم الناس يظنّون أنّ العلم أضحى يحصّن الحياة الإنسانيّة ويعزّز مناعتها بواسطة مختلف الاكتشافات البيولوجيّة والطبّيّة التي أوشكت أن تضبط مسار التفاعل الخلويّ العصبيّ الداخليّ العصيّ على الإمساك، وتُحصي حركات الجسم في أدقّ تموّجاتها، وتوجّه وظائفه وتنسّقها وتمنحها الانبساطيّة السليمة والاتّزانيّة المنعشة والفاعليّة الضامنة. ولكنّهم سرعان ما اكتشفوا أنّ الكائن الإنسانيّ من أشدّ الكائنات الحيّة انعطاباً، وأنّ البيئة الطبيعيّة التي يحيا فيها تنطوي على مخاطر جمّة لا يجوز التهاون في استدراكها والاستعداد لها ومحاولة مواجهتها ومعالجة آثارها الهدّامة.
غير أنّ الجائحة لم تُسعف الإنسان في إدراك ذاته واكتشاف ماهيّة كيانه وجوهر مقامه وحقيقة دعوته وطبيعة وظيفته في الكون. لذلك لا بدّ من الاستفسار الفلسفيّ الصريح هذا: كيف يتصوّر الإنسان ماهيّتَه ومقامَه ووظيفتَه ورسالتَه ودعوتَه؟ وكيف يستثمر وعيه ووجدانه وعقله وحدسه وحسّه وعاطفته ومداركه مجتمعةً؟ هل يهنأ بوجوده المنعطب؟ أم يسعى إلى تجاوز إنسانيّته تجاوزاً يبلغ به حدودَ الانتحار الجماعيّ؟ ما القيَم الأخلاقيّة الأساسيّة التي ينبغي أن يعتصم بها حين تجرّده الطوارئُ من كلّ سيطرة على مسار الأمور؟ ما برحت جميع هذه الأسئلة تؤرّق الإنسان وتربكه وتزعجه، حتّى أضحى يرتجل ويتسرّع ويصوغ بعض الأجوبة الملتوية التي لا تصون كرامته ولا تعزّز وعيه النقديّ. فإذا به يُغفل عن أمثولات الجائحة، فيتصوّر نفسَه في هيئة المقتدر المستبدّ الذي يستبيح بأنانيّته المفرطة كلّ الشرائع والنواميس والأحكام التي ترعى المعيّة الإنسانيّة.
استفحال الأنانيّات المتضخّمة: علاقة الإنسان بنظرائه
كورونا الرعب (سوشيل ميديا)
ما إنْ خفّت وطأة الڤيروس حتّى سارع الناس إلى التلاقي والتخاطب الحيّ والتفاعل المباشر. أحسّوا أنّ التواصل الافتراضيّ من على بُعد كبحَ غرائزهم العدوانيّة ومنعهم من التعبير عن حقيقة مشاعرهم. فراحوا يستفيضون في الاحتفاء باللقاء المتجدّد، ويغالون في امتداح الحضور الجسديّ النابض بالحياة. ولكنّهم سرعان ما استعادوا تصرّفاتهم القديمة وأفعالهم المكبوتة، وفي ظنّهم أنّهم حُرموا من التعبير الحيّ عن ذاتيّاتهم في زمن العزلة الكورونيّة. اللافت في هذا كلّه أنّ خبرة الموت الذي انتزع أقرب الناس إلينا من الشبّان والشابّات الأصحّاء الأشدّاء لم تجعلنا نتبصّر في انعطابيّة الوجود الإنسانيّ ونتّعظ بنسبيّة الحقائق الحياتيّة. من جرّاء الخوف الذي ينتاب الإنسان حين يعكف على استصلاح وجدانه، يُعرض الكثير من الناس عن تعرية ذواتهم، ويكتفون بتجميلٍ طباعيٍّ سطحيٍّ عابر وتهذيبٍ مسلكيٍّ ظاهريّ.
بيد أنّ علاقات الناس بعضهم ببعض ما فتئت تخضع بعد الجائحة للمشاحنات والمشادّات المنبثقة من استفحال الأنا الفرديّة. فالإنسان لم يجرؤ على معالجة العيوب البنيويّة التي تصيب وعيه الأنانيّ، بل آثر أن يتعامى عنها وأن يدّعي الظهور في هيئة جديدة تلائم ما أفرزته الجائحة من ضرورات النضال من أجل البقاء والاستمرار. من أتعس الحقائق التي يعاينها الإنسان في إثر انكفاء الڤيروس الفتّاك الحاليّ أنّ علاقات الناس أضحت أشدّ عدوانيّة. قد يكون الباعث على ذلك ردود الفعل العكسيّة التي استثارتها الانسلاخات الأليمة والغيابات الصادمة والجنازات المتكاثرة والمدافن المكتظّة. عوضاً عن الاستهداء والارتداد والاتّعاظ، أخذ الإنسان يتشبّث بأنانيّته تشبّثاً عنفيّاً شرساً، ولكأنّ اختبار الفناء المباغت جعل الناس يستبيحون كلّ المحظورات، ويستسهلون كلّ المعاصي، ويستصغرون كلّ المقامات. يبدو لي أنّ أغلب الناس انتقلوا من وضعيّة المناضل في سبيل الانعتاق من سطوة الڤيروس إلى وضعيّة المتشبّث الأعمى بقشور الحياة التي ظلمتهم ظلماً شديداً أثناء المحنة الوبائيّة. ثمّة ذهنيّة تعويضيّة مفرطة في تطلّبها تسعى إلى الاستزادة الطائشة من كلّ الفرَص الشرعيّة وغير الشرعيّة التي تُفرج عنها الأحوال الزمنيّة المستجدّة.
استباق الكارثة الإفنائيّة: علاقة الإنسان بالطبيعة
كان يحلو للفيلسوف الألمانيّ هايدغر أن يعود بمفهوم الطبيعة إلى أصله الإغريقي القديم (phusis) ليعاين فيه تفتّح الكائنات والموجودات تفتّحاً عفويّاً تلقائيّاً مقترناً بحركة الانبساط الذاتيّة التي يحملها كلُّ عنصر من عناصر الحياة. فالنهر يجري جريانه العفويّ، والسهل ينبسط انبساطَه الحرّ، والشجرة تنمو نموَّها الذاتيّ، والوردة تتفتّح بفعلها الكيانيّ الخاصّ، وهكذا دواليك. ولكنّ الإنسان أراد أن يتسلّط على حركة الطبيعة العفويّة، مستنداً إلى أحكام السيادة التي تنطوي عليها نصوصُه التراثيّة والدِّينيّة. فإذا به يُخضع مسار الكائنات لمشيئته الاستغلاليّة حتّى إنّه أضحى سيّدَ الطبيعة ومالكَها، بحسب قولة فيلسوف العقلانيّة الفرنسيّ دِيكارت (1596-1650).
إلّا أنّ جائحة كورونا كشفت لنا عن إثم التعدّي السافر على المحميّات الطبيعيّة التي غزاها الإنسان ليستثمر مواردَها في سبيل تعزيز مكانته التسلّطيّة. ومن ثمّ، يجمع العلماء على أنّ الاختلال الڤيروسيّ مرتبطٌ بالتعدّي على الاتّزان الداخليّ الذي تَنعم به الطبيعة في صميم تفاعل عناصرها الخاصّ. خطيئة الإنسان العظمى أنّه تصوّر علاقته بالطبيعة تصوّراً استبداديّاً حرمه من الاستمتاع بجمالاتها الساحرة، وحرم الطبيعة من الإفصاح عن عفويّتها الأخّاذة. لا يخفى على أحد أنّ التكاثر الدِّموغرافيّ يتطلّب إتقان الإنتاجيّة الزراعيّة من أجل ضمان التغذية السليمة. ولكنّ الضرورة الحياتيّة هذه لا تبيح المحظور البيئيّ الذي يُفضي بالإنسان إلى تلويث الأجواء والأهوية والينابيع والأنهار والغابات والسهول وأجواف الأرض والجبال والفضاء الأقرب الذي تحوَّل إلى مزبلة الأقمار الاصطناعيّة.
نظرة عالمية (اندبندنت عربية )
أجل! لقد اضطربت علاقة الإنسان بالطبيعة اضطراباً خطيراً. لذلك لا بدّ من وقفة تأمّلٍ يتذكّر فيها الإنسانُ حقيقة مقامه في الكون. فالأرض كلّها ذرّةٌ متناهيةُ الصغر، معلّقةٌ في الفضاء على وقع أشدّ الجاذبيّات الفلكيّة هشاشةً وانعطاباً. يكفي أن يهتزّ دورانها اهتزازاً طفيفاً حتّى تتفجّر براكينُها، وتتشقّق سطوحُها، وتتطاير أبنيتُها، وتتناثر إنشاءاتُها. فلمَ الغرور والتعجرف والاستبداد؟ من فضائل العلم الحكيم أن يراعي الإنسان مقام الحاضنة الطبيعيّة التي تضمن له البقاء. لا بدّ، والحال هذه، من استذكار الأيّام الهادئة التي قضتها البشريّة أثناء الجائحة، حين توقّفت المصانع عن قذف سمومها في الجوّ، وهدأت محرّكات السيّارات والطائرات والسفن، وانطفأت أضواء البورصات العالميّة، وخمد ضجيجُ المختبرات الصناعيّة والمؤسّسات الاستثماريّة، وخلد الإنسانُ إلى ذاته ينظر في باطن وجدانه ويتأمّل في سكون الطبيعة التي استعادت بعضاً من روحها وهنائها.
منافع التحريض على قبول المحدوديّة الإنسانيّة
لم أرسم اللوحة التشاؤميّة هذه لكي أغلق على آفاق الوجود الإنسانيّ، بل كشفتُ عن مآلات الوعي الإنسانيّ في قرائن الاضطراب العالميّ الذي يصيب المجتمعات الإنسانيّة في الزمن الراهن. أعلم علم اليقين أنّ الطوفان الرمزيّ الذي جرف البشريّة كلّها واستصفى القلّة الأصيلة الطيّبة لم يُصلح الإنسان إصلاحاً جذريّاً. فضلاً عن ذلك، عانت البشريّة أهوال الحروب والجوائح والكوارث التي أوشكت أن تفني الناس عن بكرة أبيهم. غير أنّهم ما برحوا يتصرّفون على سجيّتهم الغريزيّة الأنانيّة. إذا لم يبدّل الطوفان في طبيعة الإنسان، وإذا عجزت كوارثُ الإفناء عن تهذيب طباعه، فما عسانا نفعل حتّى تستقيم الأخلاق وتنتظم الأمور وتتّسق الأحوال وتنضبط العلاقات؟ هل كُتب علينا الاحتراب الإفنائيّ حتّى منتهى الحياة البشريّة على الأرض؟
أظنّ أنّ الإنسان مفطورٌ على النسيان العبثيّ الذي يغشى وعيه ويلفّه بضبابٍ من الزيف الوجوديّ المنهك. أخطر المهالك أن ينسى الإنسان أنّه ينسى عِبَر الزمن وأمثولات الدهر وخلاصات التاريخ. لذلك كان نسيانُ النسيان آفة البشريّة وقدرها المحتوم. كان هايدغر يعاتب الإنسان على خطيئة نسيان النسيان، وينتقد في الحداثة الإصرارَ على تخدير الإنسان ومنعه من استدراك محنة النسيان الذي يجعله يفقد الصلة الأساسيّة بحقيقة الكينونة. حين ينسى الإنسان المعاصر أنّه في وضعيّة النسيان العبثيّ، يسقط في تجربة الإفناء الذاتيّ. لا بدّ، والحال هذه، من البحث عن سبيل خلاصيّ آخر، عن فكر استذكاريّ يُعيد إلينا وعينا المتواضع الذي يملي علينا واجب الاستهداء بمثُل الصلاح التي تجعلنا نقبل قبولاً عقلانيّاً حكيماً بمحدوديّة الفطرة الإنسانيّة، أي بالبينيّة التنازعيّة التي ينشأ عليها كلُّ كائن إنسانيّ يختبر في صميم وجدانه تساكن الخير والشرّ، وتواطؤ الأنانيّة والإيثاريّة، وجدليّة الارتقاء والانحدار، وتفاعل الطموحات الشريفة والرغبات الفاسدة. فالإنسان ليس كائناً صالحاً أو فاسداً على وجه الإطلاق. إنّه مزيجٌ سرّيٌّ مربكٌ من الخصائص المتلألئة والصفات الباهتة، بحيث يضحي كيانُه موضعَ الرماديّة الحياديّة التي تجعله لا يستقرّ إلّا على ترجرج هويّته الضائعة. في معترك التباس الهويّة، ينبغي للإنسان أن يجاهد الجهاد الحسن حتّى يفوز بمعنى وجوديّ يُرضي ما فُطر عليه من مساءلةٍ ذاتيّةٍ متطلّبةٍ، ومسؤوليّةٍ علائقيّةٍ ملتزمة. حين يدرك الإنسانُ أنّه لا يستطيع أن يحيا وحده، وأنّ مجتمعات الأرض لا يجوز أن تحترب احتراب الإفناء العبثيّ، يعثر على السبيل الواقعيّ الممكن الذي يهيّئه للتوفيق بين تلبية رغائبه ومراعاة ضرورات المعيّة الإنسانيّة الأرحب.