مدينة الحضر الشاهدة على أقدم الممالك العربية في العراق
تعد “مملكة الحضر” -أو “حطرا” كما دُون في الكتابات الآرامية القديمة- واحدة من أبرز المدن الأثرية في العراق وأقدم الممالك العربية. حكمها 4 ملوك فقط، وهي أول موقع أثري عراقي يُدرج ضمن لائحة التراث العالمي لليونسكو عام 1985.
تقع مدينة الحضر في قلب بادية الجزيرة الشمالية التابعة لمحافظة نينوى شمالي العراق، وتتوسط نهري دجلة والفرات عند الأطراف الشمالية الغربية من العراق، وعلى وادي الثرثار الذي يمر إلى الشرق منها بنحو 3 إلى 4 كيلومترات. وتبعد أطلال وبقايا مدينة الحضر نحو 110 كلم إلى الجنوب الغربي من مدينة الموصل، ونحو 50-60 كلم إلى الشمال الغربي من الشرقاط (آشور). وامتد نفوذ مملكة الحضر إلى نهر دجلة من الشرق والفرات من الغرب، ومن جبال سنجار في الشمال إلى مشارف طيسفون/ المدائن في الجنوب، لكن في عصر ازدهارها امتد نفوذها شمالا إلى ما وراء سنجار، حتى وصل الخابور ونصيبين أقصى شمالي العراق.
الاسم
تشير النقوش الكتابية إلى أن اسم المملكة كُتب بالآرامية بصيغة “حطرا”، ومن ذلك ما نٌقش على المسكوكات المضروبة فيها من الحضريين أنفسهم شعارا لعملتهم الوطنية الخاصة، وذلك في عبارة “حطرا دي شمش”، وتعني الحضر مدينة الشمس أو العائدة للشمس.
وقد وردت بالصيغة ذاتها في المدونات اللاتينية والسريانية مع اختلاف طفيف، ففي المصادر اللاتينية القديمة وردت كلمة “حطرا” (HATRA) بمعنى بلاد العرب.
أما في السريانية والآرامية، فوردت بصيغة “حوطرا”، وتعني الحظيرة، كما وردت في النصوص الأوغاريتية عبارة “حظر” عدة مرات، وتعني القصر.
السكان
سكنت مملكة الحضر قبائل عربية، وعاش وسطهم القليل من الآراميين، ولم تكن سوى قرية نشأت خلال العصر الآشوري الحديث (عام 612 قبل الميلاد)، واستغلت غياب قوة الإمبراطورية الآشورية لتتوسع وتصبح مركزا لاستقطاب الأفراد من البدو ورعاة الإبل والمتجولين في عموم البادية الشمالية.
التاريخ
نشأت مملكة الحضر -وتعرف أيضا بـ”مملكة عربايا”، أي مملكة العرب- على أنقاض طبقات سكنية تعود إلى الفترة الآشورية الحديثة (911-612 قبل الميلاد)، حيث نمت وتوسعت لتصبح مملكة مستقلة في القرن الثاني قبل الميلاد. واستمر حكمها إلى عام 241 من الميلاد، عندما سقطت على يد الملك الساساني شاور الأول.
مثلت الحضر الدولة العازلة بين إمبراطوريتين مهمتين، وهما إمبراطورية الإسكندر وإمبراطورية الفرس، ثم الإمبراطورية السلوقية والساسانية والفرثية، لتصبح بذلك حلقة وصل تاريخية، والملاذ الآمن للقبائل العربية والآرامية، وتنشئ مدينة مزدهرة عمرانيا واقتصاديا، لا سيما أنها كانت محطة عبور للقوافل التجارية، وفي الوقت ذاته كانت قلعة كبيرة محصنة بأبنية شاهقة.
حكم مملكة الحضر 4 ملوك عرب خلال قرن من الزمن، وهم:
الملك ولجش (158-165م).
الملك سنطروق الأول (165-190م) وهو أخ الملك ولجش.
الملك عبد سيما (190-200م)، وهو ابن الملك سنطروق الأول.
الملك سنطروق الثاني (200-241م) وهو ابن الملك عبد سيما.
وقد حكم سنطروق الثاني ما يزيد على 40 عاما، وتمكن من توسيع المملكة، فامتدت في عهده إلى ما بعد نهر الفرات في الغرب، ووصلت إلى تخوم بلاد الشام الخاضعة حينها للحكم الروماني. أصبحت مدينة الحضر منطقة حدودية مهمة، ولعبت دورا بارزا في الحرب البارثية الثانية، حيث صمدت أمام الهجمات المتكررة من قبل الإمبراطورية الرومانية خلال القرن الثاني الميلادي، إذ صدت المدينة حصار كل من تراجان (116/117م) وسبتيميوس سفروس (198/199م)، لكن قواتها هزمت من الفرس الساسانيين عام 238م في معركة شهرزور.
عمران مملكة الحضر
برزت العمارة الحضرية في القرنين الأول والثاني الميلادي، وبُنيت على الشكل الدائري لتسهيل مهمة الدفاع عنها، وهي محصنة بسورين وقلاع، ومن أهم ميزاتها العمرانية استخدام الإيوانات (جمع إيوان، وهو حجرات محصنة) في الأبنية العامة والخاصة، وعند سورها الرئيس، صُممت 4 أبواب متينة، لمنع هجمات الأعداء. قطر المدينة ممتد لنحو كيلومترين، وهي محاطة بخندق عميق، ولها سور خارجي طوله نحو 8 كلم، وبعده سور داخلي طوله نحو 6 كلم به 4 بوابات مبنية بالحجارة لضمان تحصينها، ويدعم هذا السور 163 برجا، كما وجدت التنقيبات الأثرية جدارا ترابيا يلف المدينة من جميع جهاتها على بعد نصف كيلومتر من السور. الحضر غنية بشكل خاص بمئات المنحوتات، ومزينة بعدة تماثيل لحيوانات وشخصيات و”آلهة”، إضافة إلى منشآت عمرانية ومعابد عريقة تعود إلى فترات تاريخية مختلفة.
الاقتصاد
تمتعت مدينة الحضر بموقع جغرافي ممتاز أتاح لأهلها السيطرة على طرق القوافل التجارية المارة ببادية الجزيرة، كقوافل الحرير والتوابل والأخشاب وغيرها، وهو ما أنعش اقتصاد المدينة، ودلت كثير من الكتابات الأثرية المكتشفة في المنطقة على أن أهل الحضر مارسوا جباية الأموال والضرائب من القبائل العربية. وفي الوقت نفسه، مَثل نمو المملكة الديني حافزا اقتصاديا مهما لها، إذ تواردت عليها الأموال لكثرة وتنوع معابدها، التي كانت تتلقى النذور والهدايا بشكل يومي.
نهاية مملكة الحضر
عام 141 من الميلاد، بعد أن حرر آخر ملوك الحضر أقاليم السواد وشهرزور من سلطة الاحتلال الساساني، أعدّ الإمبراطور الساساني سابور الأول العدّة للهجوم على الحضر، بعد أن فشل والده في احتلالها سابقا. ففرض عليها حصارا امتد حتى أبريل/نيسان 241م، وتمكن من اختراقها واحتلالها بعدما ساعده أشخاص من داخلها. وبذلك انتهت حقبة مملكة الحضر، وانتشرت فيها الديانة الزرادشتية، وهي ديانة الشعوب الخاضعة لحكم الساسانيين، كما انتشرت فيها المسيحية فيما بعد.
وفي السابع من مارس/آذار 2015، هدم مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية بالجرافات كثيرا من مباني مدينة الحضر الأثرية، وباشروا تحطيم الأصنام والتماثيل باستخدام الفؤوس والقنابل، وأزالوا البوابات الشرقية للموقع الأثري بدعوى أن هذه الآثار “أصنام وشركيات” محرمة في الدين الإسلامي. وتمكنت فرق التنقيب والبعثات الأثرية في ما بعد من ترميم جزء منها.