1

الحكومات العراقية ولعنة الاقتصاد الريعي 

إياد العنبر27 نوفمبر 2022

تراجع مبيعات النفط العراقي في آسيا

بحسرةٍ وألم يشاهد المواطنُ العراقي مباريات كأس العالم التي تستضيفها دولة قطر، ويتساءل: لماذا نجحت قطر التي يعتمد اقتصادُها الريعَ النفطيّ في بناء هذه الملاعب الفخمة وكلّ منشآت البنية التحتية لاستضافة أهم حدث رياضي في العالم، في حين فشلت كلّ الحكومات العراقية في توظيف النفط لِلبناء والإعمار؟ 

قد تكون هذه المقارنة غير منصفة، على اعتبار أنَّ طبيعة النظام السياسي في كلا البلدَين تختلف، وأنَّ التحديات الجيوسياسية تختلف أيضاً، ولكن موضوعنا يناقش الفشلَ والنجاحَ في إدارة الاقتصاد الريعيّ. وإذا عدنا مرةً أخرى إلى المواطن العراقي، فعندما يقارن واقعه المعاشيّ بما يعيشه أيّ مواطن في دول الخليج، سيقول: ماذا استفدتُ من النفط حتّى أستفيد من نظامنا “الديمقراطي” الذي تلوّث بالفوضى والفساد وحكم الزعامات السياسية؟! 

النفط، هذه الثروة الطبيعية التي تحوّلت إلى “لعنة”، حسب وصف بعض الباحثين في الاقتصاد السياسي، وأطلق عليها تسمية “دم الشيطان” عالِمُ الاقتصاد الأميركي “فيرنون سميث” الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد، ضمن محاضرةٍ له في “معهد السلام” في واشنطن 2003. فالثروة النفطية في رأيه “تغذّي انعدام الكفاءة، وتزيد من مركزية السلطة، وتنشئ رأسمالية أتباع وأقارب، وتشجّع زيادة الإنفاق الحكومي بلا حساب، فيغدو الإنفاق سرطاناً لا يمكن إيقافه، وممارسة لا تمكن إدامتها”. 

الحكومات المتعاقبة كلّها، تكرر في برنامجها الحكوميّ عبارة (التوجّه نحو اقتصاد السوق)، و(تنوّع الإيرادات غير النفطيّة). ولكنّها تفشل في تنفيذ تلك الوعود، وتعتمد أولاً وأخيراً على العائدات النفطية، لا بل حكومة الكاظمي كانت تتفاخر بنجاحها في “تحقيق أعلى معدّل نمو اقتصادي”، مِن دون أن يُذكر لنا ما هي المعجزة الاقتصادية على مستوى الأنشطة الإنتاجية والخدمية التي حققت الارتفاع في معدّل النمو، في بلدٍ اقتصاده يتعمد بنسبة 90% على النفط ولا شيء غيره. ولو لا ارتفاع سعر برميل النفط إلى أكثر من 100$ لما حدث أيّ نمو. 

ويبدو أن رؤساء حكوماتنا لا يجيدون غير الثرثرة السياسية في قضايا الاقتصاد، أو في أحسن الأحوال هم بارعون في التشخيص، ولكنّهم عاجزون عن تحويل الحلول من التخطيط على الورق والحديث في المنتديات الإعلامية والندوات السياسية والأكاديمية إلى الواقع العمليّ. أمّا فريق المستشارين الاقتصاديين المرتبطين بالحكومة فمهمتهم تبرير سياسات الإنفاق العَبَثية والفوضوية، وتبرير صفقات الفساد في مزاد بيع العملة، والتشكّي والتذمّر مِن تضخّم عبء الإنفاق الحكوميّ على الرواتب. 

بسبب اعتماد الاقتصاد العراقيّ على الريع النفطي، اندمجت السلطتان الاقتصادية والسياسية في أيدي الأحزاب السلطويّة وشخصياتها وزعامتها. ومن ثمَّ، أصبحت وظيفة الحكومات تنحصر في مهمتَين: الأولى تنمية موارد الأحزاب وزعامتها السياسية وضمان هيمنتها على موارد الدولة ونشاطاتها الاقتصادية. والثانية، توسيع دائرة زبائنها السياسيين من خلال التعيينات في دوائر الدولة، فهم بالنتيجة رعايا وأصوات انتخابية تابعون لهذا الحزب السياسي أو ذاك، وليسوا مواطنين تضمن الدولة توفير فرص العمل لهم. 

يقول عصام الخفاجي: إنَّ الدولةَ الريعيةَ في العراق لا تؤمّن الإذعان لها والسكوت على تجاوزاتها لمجرّد أنّها تشغّل أكبر عدد مِن العاملين فحسب، بل هي تخرّب كلَّ مفهوم حول اقتصاد السوق وتحيله إلى نظام مافيا مقنَّن لأنّها هي مَن يمنح العقود والمقاولات، ويتمّ ذلك في أجواء بعيدة كلّ البعد عن التنافس المتكافئ.  

لذلك ليس غريبًا عدم إصغاء الحكومات إلى الناس، وافتقادها القدرة على ضبط تصرفاتها، ما دام النفط هو ما يمولها. فالحكومة هي من تهب وتوزّع العطايا على الرعايا، ما دامت قادرة على تمويل سياساتها الاقتصادية والاجتماعية وشرطتها وجيشها مما تدرّه عليها موارد النفط. وتغطّي على فشلها وسوء إدارتها وحتّى فسادها من خلال تأسيس شبكات إعلامية دعائية تروّج لمنجزاتها الوهمية وتسقّط خصومها ومَن يعارضها. 

كلّنا نعلم، وحتّى غير المتخصصين، أنّ الاقتصاد الذي يعتمد النفطَ والغاز هو اقتصاد حكوميّ بالتعريف، وإنَّ الحكومات هي، بالتعريف، أجهزة غير منتجة، ومصاريفها تبتلع الجزءَ الأكبرَ من العائدات، السهلة أو الصعبة. ولا يمكن لِلهيئة الحكومية أن توسّع حدودها إلى ما لا نهاية لامتصاص العاطلين. خصوصاً أنَّ معدّل البطالة في العراق، حسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء في وزارة التخطيط، بلغ 16,5%. ولذلك على الحكومة توفير 5 ملايين فرصة عمل لغاية 2030، ليس من خلال “توظيفهم” أو “التعاقد” معهم لِلعمل في أجهزة ومؤسسات الدولة، وإنّما من خلال تنويع الاقتصاد، وإيجاد فرص عمل مستدامة.  

لحدّ الآن لم تتضح الاستراتيجية الاقتصادية لِلحكومة، ومهما كانت ملامحها فإنّها لن تغادر منطقة الاعتماد المطلَق على سوق النفط التي يمكن أن تنقلب في الأعوام المقبلة. 

والجميع ينتظر الحكومة أن تترجم برنامجها في إعداد الموازنة الاتحادية لِعام 2023، وهل ستكون الموازنة مجرّد بنود تنظّم جداول الإنفاق الحكومية أم ستكون موازنة برامج كما تعهد بذلك رئيس الوزراء محمد شياع السوداني؟ وكيف يمكن أن تواجه الدَين الداخلي الهائل، والاختلال الهيكلي المُزمِن، ومعدّلات البطالة الصريحة والمُقنّعة، والترهُّل الكارثي للقطاع الحكومي؟  

إنَّ الآمال المرسومة في البرنامج الحكوميّ، والتصريحات السياسية التي تعد بها الحكومات الشبابَ الطامح إلى دخول سوق العمل بربع مليون وظيفة حكومية كل عام، وليصل عدد الموظفين والمتقاعدين إلى عتبة الخمسة ملايين! كلّ ذلك لا يمكن له أن يتحقق إلا ببقاء أسعار النفط أعلى من 60$ للبرميل الواحد. عدا ذلك فإنَّ كلّ الوعود ستظل مجرّد بيع للأوهام، ومجرّد أمنيات ليس أكثر، أو هي وصفات لإدامة الخراب، وإنها تراهن على معجزة نهوض العملاق النفطيّ. 

إياد العنبر

إياد العنبر

التعليقات معطلة.