1

في صعود “الزعرنة” الثقافية

المصدر: النهار العربي

سمير التقي

سمير التقي

جامعة كامبريدج.

جامعة كامبريدج.

A+A-باشمئزاز وغضب، قرأت مؤخراً عن الأكاديمي البريطاني البروفسور بانر -مدير معهد الثالوث المقدس في كامبريدج- يتحدث بكل خفة عن حقيقة جنس السيد المسيح. ليطلق نظريته بخفة واعتباطية لا يمكن أن يقبلها هو نفسه من أصغر تلامذته. لم تكن تلك المرة الأولى التي تنتابني فيها هذه المشاعر تجاه هذا الطوفان من التدمير والعبث للبربرية الثقافية الصاعدة. هذه المرة طاولت السيد المسيح، وفي الأمس طاولت الرسول محمد، وقبلها طاولت الهولوكوست، ثم السود ثم العرب ثم النساء …  إلخ. في نهاية الأمر، لكل إمرئ الحق في قول ما يريد وأيضاً في البذاءة، ولكنك حين تتحدث باسم واحدة من أهم المعاهد المرجعية مثل جامعة كامبريدج، عليك أن تلتزم بحد أدنى من المنهج والمعايير والمسؤولية الأخلاقية والأكاديمية، وإلا صرت من كبار الرعاع. فعلى الصعيد الشخصي، يحق لك أن تكون بذيئاً، لكن لا يحق لك أن تستغل موقعك العلمي وتجر مجتمعك ومؤسستك الأكاديمية نحو البذاءة. ليس هذا، لا يميناً ولا يساراً، بل إنه عالم تحتي سفلي حيث تنحط الحرية لتصير ظلاماً. في حين تشكل الحرية الأكاديمية صلب مفهوم وقيم الديموقراطية، وسبب تفوق الحضارة الغربية، نجد طوفاناً من العمى الشعبوي، يصعد باسمها. فلا معايير للحقيقة، بل صراخ شعبوي يصفق لأساطير ملفقة لا هدف لها إلا الترويج للناشز من الأفكار من دون حجة أو اثبات. فثقافة الزعرنة لا تكتفي بالصراخ، بل تريد إسكات وشيطنة كل ثقافة سائدة تعارضها. من حيث المبدأ، لا بأس في أن تُدَمّر فكرة أو نظرية ما من خلال جدل ومنطق أكاديميين وتراكم ثقافي تاريخي. فهذه سنّة المعرفة والحضارات. حك الفكرة بالفكرة، وجدل الحجة بالحجة، هو سنّة النمو. لكن هذا شيء ومنطق الهجوم العبثي الشخصي والمجاني المسطح هو طريق انحطاط وتدمير للحضارة ذاتها. في الوسط الثقافي الدولي تنمو ظاهرة مزدوجة. تضغط غوغاء الشارع لقمع الحرية الأكاديمية المخالفة لها، وتقييدها بمزاج العامية وشعور القطيع من جهة، ومن جهة أخرى يتصدر بعض الأكاديميين موجة السوقية بكل جدارة ليروجوا لتدمير ثقافتهم ذاتها. ما قام به بانر ليس نادراً، بل غالباً ما تطرد الغوغاء أستاذاً في العلوم الإنسانية لمجرد أنه لا يطرح افكاراً تخالف رأي موجة الشعبوية الثقافية في بعض الأوساط الجامعية، بحيث صار مناخ الحياة الجامعية في بعض الجامعات الأوروبية والأميركية، مثله مثل المناخ في العديد من البلدان الشمولية، يشهر الإرهاب الثقافي في وجه كل ما يعارضه. وبحجة حرية الرأي يحظرون كتباً وأغاني وتراثاً، طالما أنه لا ينسجم مع الشعور الدارج للقطيع الشعبوي. ويلتقي مع هذا الطوفان بعض الشخصيات العلمية، لمغازلة ذاك الميل الطاغي بعيداً عن تقاليدهم الاكاديمية. فأن تكون شعبوياً هو أمر لا علاقة له بتحصيلك العلمي. من الدكتور غوبلز النازي، إلى الدكتور أوز في فيلادلفيا الذي شن حملة تضليلية ضد لقاح كوفيد، إلى منظري التفوق الأبيض والأسود، تتصارع العصبيات يميناً ويساراً، لتجعل الحوار مستحيلاً، ولتمضي في جهدها التدميري لمجتمع المعرفة. https://imasdk.googleapis.com/js/core/bridge3.547.0_en.html#goog_767717720 seconds of 0 secondsVolume 0% مرّت الحضارات بلحظات مشابهة إبان الانعطافات الكبرى. بعض الحضارات تداعى وغاب، وبعضها استدرك الخراب وتكيّف مع الجديد، وأعاد تثبيت بنيته النخبوية ومرجعيته العقلية والفكرية. ليبدو أن من المحتم انه كلما اشتد الانعطاف في المجتمع، تفقد المجتمعات زمامها. مع كل انعطافة كبرى في وسائل الاتصال بين البشر، تهتز الدول والمجتمعات والقيم والثقافات. فغزوات المغول حصلت بعد تنامي واتساع الاقتصاد الصيني واتساع تجارة “طريق الحرير”، ما فتح الباب لعصر تلاقح ثقافي واقتصادي كوني جديد مع آسيا، لم يشهد له التاريخ مثيلاً. وفي زمن المغول صعد في بلادنا شعراء الانحطاط وحكام الانحطاط. لكن ما حصل بعد اختراع الطباعة، في أوروبا كان أكثر درامية. فبدلاً من أن يكون الكتاب المطبوع منصة لتعميم المعرفة والثقافة والعقلانية، كانت أغلبية الكتب المطبوعة تتحدث عن السحر والعفاريت والكائنات المتوحشة الخيالية، لتطلق بدورها حملة همجية من حرق النساء والأطفال بحجة السحر راح ضحيتها، ما لا يقل عن عشرة آلاف إنسان في أوروبا وفق أفضل التقديرات. لقد تداعت البنية المرجعية في أوروبا في القرن السادس عشر، لتسود مكانها كل أشكال الهرطقة والعدمية والتهتك. أفضت هذه الفوضى العارمة إلى حدوث حرب الثلاثين عاماً في ألمانيا، واشعلت لاحقاً كل أوروبا بنيرانها مع كل ما رافقها من مجازر وخراب وتفكك. وفي انعطاف مماثل وبالتزامن مع ذلك، مرت بريطانيا بحروب مدمرة وصفها هوبز بدوره بـ”حرب الكل ضد الكل” في أجمل وصف لتفلت العفوية البربرية في المجتمع. في التراث العربي نجد الكثير من التعابير لوصف لحظات مماثلة طفت فيها كالهوام طبقة رثة من الأغنياء والفقراء، من الحكام والمحكومين يطفون كالهوام على روح المجتمع. يسميهم أهل العراق بـ”المجاريد”، نسبة للأغنام المصابة بـ”القراد”، ويسميهم أهل مصر “البجم” او “الحوش”، وفي بلاد الشام هم “الزعران”، أما في التراث العربي فاسمهم “التحوت”، نسبة لانحطاطهم في قعر المجتمع. وبالقدر ذاته الذي نرى فيه الأصالة والتحضر لدى كل الشعوب والطبقات، نجد المجاريد والزعران والتحوت بين الفقراء والاغنياء وبين الجاهلين والدارسين الأكاديميين، وبين المشردين ورجال السلطة. المعيار هو ثقافة التدمير العبثي من دون مرجعية، أو نخبة أو قيادة أو قيمة، سوى العامية والفردية الغريزية والنرجسية. كتب عنهم دوستويفسكي مسرحية “الحضيض”، وسماهم اليسار حثالة البروليتاريا. والآن، تذكرنا طفرة وسائل التواصل الاجتماعي وصعود الإثارة في الإعلام وطغيان المعلومات الزائفة لزعران الأكاديميين بالطفرات الهمجية والحروب التي ولدها ظهور الطباعة في أوروبا. فمن موضة المؤثرين على “تويتر”، إلى تدمير “داعش” للتراث الثقافي العظيم للوثنية في تدمر، إلى ابتذال دونالد ترامب تجاه النساء، إلى تصريحات البروفسور بانر، إلى معركة إيلون ماسك على “تويتر”، تصعد ثقافة “التحوت” أمام عيوننا. لا علاقة للزعرنة الثقافية بحرية الفكر ولا بالديموقراطية. والفرق بسيط. وإذ يولد في كل يوم دجال ومنافق ثقافي جديد، يصبح ضبط ومعايرة المحتوى الثقافي والعلمي للثقافة البشرية التحدي الأكبر أمام حضارتنا. نعم، العنف الثقافي أكثر خطورة من عنف السلاح، وإذ تتخذ الحرب الشعبوية ضد الثقافة الغربية منحى خطيراً من خلال الاتجاهات المعادية للديموقراطية، ومن خلال عبثية العديد من الأكاديميين مثل البروفسور بانر، نجدها في شرقنا العاثر قد صارت، حروباً وعصبيات دينية وقومية وإثنية جاهلية، وتسببت بأنهار من الدماء وأسراب من الغرقى تلتهمهم أسماك المتوسط.

التعليقات معطلة.