مقالات

الاختفاء القسري في العراق جريمة دولة

آراء

إياد الدليمي

عراقية تحمل صورة لمفقودين في محافظة المثنى (14/4/2022/فرانس برس)

لم يحظ خبر زيارة وفد أممي مَعني بضحايا الاختفاء القسري العراق بكثير اهتمام، لا من الحكومة العراقية ولا من الإعلام في العراق، ناهيك طبعا بالإعلام الدولي، لتبقى جريمة اختفاء آلاف من العراقيين منذ سنوات من دون ملامح واضحة، على الرغم من إشارات جريئة وردت في البيان الصحافي الصادر عن اللجنة الأممية عقب زيارتها اليتيمة تلك لبحث ملفٍّ ما زال يؤرق عوائل عراقية كثيرة تبحث منذ سنوات عن أي بصيصٍ من دون مجيب. ويتهم البيان من وصفهم بوكلاء الدولة أو مجموعات الأشخاص الذين يتصرّفون بتفويض من الدولة أو بدعمها أو قبولها بالوقوف وراء اختفاء آلاف من العراقيين. أكثر من هذا، يتحدّث البيان الأممي عن غياب المعلومات والبيانات المتوفرة في العراق، وبالتالي من غير الممكن قياس حجم هذه الجريمة، مشيرا إلى أن البعثة سجلت 555 إجراءً عاجلاً عن وقائع حدثت في البلاد، كما تلقى الوفد خلال الزيارة مئات من ادّعاءات تتعلق بالاختفاء القسري من مختلف المحافظات العراقية.
حثّ الوفد الأممي العراق على إنشاء سجل مركزي ومترابط لتمكين التعرّف على حالات الاختفاء القسري بشكل موثوق به، والوصول الفعال إلى المعلومات من جميع المؤسسات المسؤولة عن البحث عن المفقودين والتحقيق في حالات الاختفاء المزعومة، مؤكّدا أن اللجنة ستُصدر تقريرها النهائي بخصوص هذه الزيارة على أن يجري نشره في مارس/ آذار 2023.
يمكن وصف الحكومة العراقية الجديدة برئاسة محمد شياع السوداني بأنها حكومة القوى المسلحة والمليشيات المتهمة بعمليات الاختفاء القسري التي حصلت في العراق، وخصوصا منذ 2012، ومنها طبعا الفترة التي سيطر فيها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على مناطق واسعة من البلاد، والدور الذي لعبته فصائل منتسبة للحشد الشعبي خلال عمليات التحرير وما رافقها من عمليات اختفاء قسري على يد تلك المليشيات لآلاف من أهالي المناطق الغربية والشمالية الغربية من العراق.

يعلم الجميع، بما فيهم اللجنة الأممية التي زارت العراق، أن هناك سجونا تابعة لبعض الفصائل المسلحة

من هنا، يمكن القول إن زيارة اللجنة الأممية كانت على عين هذه الحكومة والأطراف الداعمة لها ورغما عنها، وكانت كأنها إسقاط فرض من أجل أن تقدّم الحكومة الجديدة نفسها أنها ستعمل على مراعاة حقوق الإنسان، إرضاء للبعثة الأممية في العراق التي سبق أن طالبت، في أكثر من مناسبة، بضرورة العمل من أجل التحقيق في جرائم الاختفاء القسري.
يعلم الجميع، بما فيهم اللجنة الأممية التي زارت العراق، أن هناك سجونا تابعة لبعض الفصائل المسلحة، وما زال أهالي المختفين يؤكّدون أن أبناءهم فيها، وأن لا هذه البعثة الأممية ولا حتى السلطات العراقية قادرة على الوصول إلى تلك المناطق. وما يعقد المسألة أكثر أن هناك مناطق كاملة هُجّر سكانها منذ 2014، ولا تتمكّن السلطات المحلية العراقية، من أعلى سلطة إلى أصغر سلطة، من الدخول إليها، ومنها منطقة جرف الصخر جنوب العاصمة بغداد.
وضع معقد وكارثي، ويؤكد أن حكومة السوداني، رغم كل الدعم الدولي الذي قدّم لها، إلا أنها لن تفي بالتزاماتها في ما يتعلق بحقوق الإنسان، أو حتى العمل على كشف ضحايا الاختفاء القسري، لأنها ببساطة متورّطة بها بطريقة أو بأخرى، وهي بالتالي أضعف من أن تدقّ باب تلك الفصائل المتهمة بعمليات الاختفاء القسري. ووصول بعثة أممية إلى العراق للبحث في ملف ضحايا الاختفاء القسري مَثَّل بادرة جيدة، وربما بصيص أمل لعوائل ما زالت تبحث عن مفقوديها منذ سنوات، ولكن حتى هذا البصيص يكاد أن يتلاشى مع الأنباء عن خشية أهالي المفقودين من عمليات ملاحقة من السلطات العراقية بسبب إدلائهم بمعلومات للجنة عن أبنائهم المفقودين.

يعد العراق أضخم مستودع للمختفين قسراً في العالم، وما زال هذا المستودع قابلا لاستقبال مزيد من المغيبين

تورّط حكومة السوداني أو من يقف في دعمها في عمليات الاختفاء القسري بحاجة إلى أن يكون تحت أضواء كل الدول والمنظمات الأممية التي دعمت هذه الحكومة، وخصوصا الولايات المتحدة التي لم تكل ولم تمل سفيرتها في العراق، آلينا رومانوسكي، من زيارة السوداني وتقديم كل دعم لحكومته.
قد لا يصدّق بعضهم أن أرقاما تشير إلى اختفاء قرابة مليون عراقي منذ العام 2003، في حين تفيد مصادر حقوقية معنية بملفات حقوق الإنسان بأن العدد، في كل الأحوال، لا يقل عن 250 ألف مغيّب ومختفٍ. هي ليست مجرد أرقام، هي أرواح بشرية، لا يُعرف مصيرها ولا يمكن أن تداوي جراحات ذويها لجان أممية تأتي كل عام مرّة أو قد لا تأتي. والحكومات التي تعاقبت على العراق بعد الغزو الأميركي 2003 هي المسؤول الأول عن ضحايا الاختفاء القسري، ولكن مسؤولية الداعمين لهذه الحكومة الحالية، حكومة السوداني، تبقى أكبر، كونها قوى ومليشيات مسلحة تؤكد كل التقارير الحقوقية أنها وراء جُل عمليات الاختفاء القسري.
العراق، كما وصفه تقرير للجنة الصليب الأحمر الدولي صدر في سبتمبر/ أيلول 2020، يُعد أضخم مستودع للمختفين قسراً في العالم، وما زال هذا المستودع قابلا لاستقبال مزيد من المغيبين ما دامت الدولة بيد قوى وأحزاب ومليشيات مسلحة.