“كاستيللو” رواية من مالطا تكشف أسرار القذافي
لعبة سردية بين التوثيق التاريخي والتخييل والتشويق البوليسي
مشهد من مالطا (وزراة السياحة)
“آماندا”، بطلة رواية “كاستيللو” (ترجمة عبد الرحيم يوسف – المرايا للإنتاج الثقافي – القاهرة) للكاتبة المالطية كلير أتسوباردي، يدفعها ولعها بدراسة التاريخ، إلى البحث، بعد بلوغها الثانية والثلاثين من عمرها (العام 2012) في تاريخ أسرتها. البحث خصوصاً في ما يتعلق منه باغتيال خالتها “كاثرين بينسا”؛ كاتبة الروايات البوليسية ومبتكرة شخصية مفتش الشرطة كاستيللو، والخلفيات ذات الصلة بالأوضاع السياسية لمالطا في ثمانينيات القرن الماضي، وعلاقتها بليبيا تحت قيادة معمر القذافي، وصولاً إلى مقتل الأخير في العام 2011، في سياق ثورة على حكمه المستبد. ومن ثم يأخذ هذا البعد سمتاً تشويقياً على غرار الروايات البوليسية، لكن المنحى الأكثر عمقاً لهذا العمل يتجلى في تجسيد مشاعر الفقد التي لازمت البطلة على مدى 25 عاماً، منذ أن تركتها أمها وهي طفلة في السابعة من عمرها، لأسباب تظل غامضة حتى النهاية، لتجد أنها مدفوعة بقوة إلى احتواء ابنتها “كلاريسا” التي حرمت منذ ولادتها من أن تكون لها جدة تغمرها بفيض حنانها. فالجدة التي ظهرت فجأة بعد غياب لسنوات طويلة، سرعان ما تختفي مجدداً، ولكن إلى الأبد، بعد العثور عليها مقتولة في غابة لا تبعد كثيراً عن بيتها. وكما لم تتح الكاتبة للقارئ معرفة أسباب واضحة لانفصال أمها عنها، فإنها تركته من دون أن يعرف شيئاً عن ظروف مقتل تلك الأم، أو مَن قتلها. وهو الأمر نفسه الذي فعلته الساردة بشأن ملابسات اغتيال خالتها “كاثرين بينسا”، والتي تُركت للتخمين، مع تلميحات إلى أن قتلها ارتبط بمافيا فساد استشرى في مالطا في ثمانينيات القرن الماضي، عبر صفقات غامضة مع إيطاليا التي تقع إلى الشمال، ومع ليبيا التي تقع إلى الجنوب.
بين الحقيقة والخيال
الرواية المالطية بالترجمة العربية (دار المرايا)
تقول آماندا: “كانت كُتُب خالتي كاثي هي السبب في قراري اختيار مادة التاريخ في المستوى السادس. اخترتُها أيضاً في الجامعة”. وعندئذ بدأت تنقب في أحداث الثمانينيات بلهفة: تاريخ عائلة بينسا وابتكار خالتها لشخصية المفتش كاستيللو، وقد بلغ تفوقها في إتقان رسم ملامحها، أن صارت وكأنها شخصية واقعية من لحم ودم. استغرقت “آماندا” في الأمر تماماً حتى أنها لم تعد تفصل بين الحقيقة والخيال. راحت تقرأ روايات خالتها ورسائل التهديد بالقتل التي كانت تصلها بين الحين والآخر لتتوقف عن كتابة الروايات البوليسية. روايتها الأخيرة رفض ناشرها أن يصدرها متأثراً على ما يبدو بتهديدات تلقاها هو الآخر. لكن لا تلبث أن تكتشف “آماندا” أن أمها إيما بربارة الشقيقة التوأم لكاثرين بينسا، “حرَّرت” تلك الرواية وغيَّرت فيها قبل أن تدفع بها للنشر، بعد مرور سنوات على إغتيال كاتبتها. لكن “آماندا” تعثر على مخطوط لتلك الرواية لم تطاوله يد العبث. الرواية كتبت في 1986 ونشرت “منقحة” عام 2009، ولاحظ ناقد يدعى “بول شويرب” أن تلك الرواية تنطوي على “حِسٍ نِسوي أكثر وضوحاً من سابقاتها”، وعبَّر كذلك عن دهشته “من الطريقة التي قُتِل بها المفتش دينيس كاستيللو” ص 186. فالحقيقة هي أن تلك الرواية كتبتها إيما بربارة ونسبتها إلى أختها، وتعمَّدت – لأسباب غامضة أيضاً – تشويه شخصية “كاستيللو” ذات الشعبية الطاغية. ومن هنا بدت عملاً خارج سياق تمجيد مفتش الشرطة الذي لطالما كشف الكثير من الجرائم المتصلة بفساد سياسي.
صور مع القذافي
زيارة القذافي الأولى إلى مالطا كانت في العام 1976، ثم تلتها زيارات أخرى. هذا على مستوى الواقع. أما على المستوى الروائي فكان كثير من الشخصيات القريبة من عائلة “بينسا”، تحرص على التقاط الصور مع الزعيم الليبي والتباهي بها، قبل أن يبادر هؤلاء بإخفاء تلك الصور بمجرد إعلان خبر مقتل القذافي. فما هي الصلة التي ربطت بين القذافي وتلك الشخصيات، بمن فيهم “كاستيللو”، والذي لا بد أن له ولهم ما يناظرهم في الواقع؟ هذا السؤال تتركه رواية كلير أتسوباردي بلا إجابة، بينما الواقع يؤكد تورط نافذين في النظام البنكي المالطي في غسيل أموال لأسرة القذافي، وقد اشتعلت بسبب ذلك، معركة قانونية، عقب اغتيال الزعيم الليبي، واستمرت لسنوات عدة، لتنتهي بقرار أصدرته محكمة في مالطا، يقضي بإعادة بنك “فاليتا” 95 مليون يورو (نحو 97 مليون دولار) إلى ليبيا على الرغم من أن من أودعها هو المعتصم معمر القذافي.
القذافي في أيام السلطة (رويترز)
من بين هؤلاء الذين حرصوا على التقاط صور لهم بصحبة القذافي، بحسب الرواية، “تومي غريك”، الذي كان موظفاً بارزاً في القصر الرئاسي في مالطا، وانتهى به الحال غارقاً في الديون، قبل أن يجدوه ميتاً في وادٍ غير بعيد من منزله الذي باع كل أثاثه، تاركاً أرملته “جينا” تسعى للحصول على صدقات من هنا ومن هناك، لتتجنب الموت جوعاً. كان “تومي” و”جينا” من أصدقاء “كاثرين” و”بربارة”. وكان للأختين أيضاً صديقة تدعى “آن فسادني”، تلجأ إليها “آماندا” في سياق سعيها لكشف المستور، وتسألها تحديداً عن صورة جمعتها هي وخالتها بالعقيد القذافي، التقطت في أوبيرج دي كاستيل عام 1982. قالت “آن” إنها تخلصت من تلك الصورة عقب اغتيال القذافي. ولاحقاً تعرف آماندا من “آن” أنّ “كاثي” كانت شغوفة بالروايات البوليسية وأرادت أن تجرب في هذا النوع الأدبي، فابتدعت شخصية “كاستيللو”. روايتها الأولى أثارت اهتماماً كبيراً وأعيدت طباعتها ثلاث مرات في وقت قصير جداً، وهو ما كان شيئاً استثنائياً في مالطا. ولكن كيف تحول “كاستيللو” من بطل شعبي إلى شرير؟
كانت “كاثي” غاضبة وصارت ضجرة من كاستيللو، لذا قامت بوضعه في السجن، على خلفية قضايا فساد تورطت فيها الشرطة، في الواقع. ولماذا جرى إخفاء مخطوط الرواية الأخيرة ل”كاثي”؟ الذين هددوها بالقتل اتهموها بأنها “باتت تلقي بالوحل على الشرطة في مالطا”. روايتها “الأخوان تونَّا” أثارت اللغط بما أنها “كسرت كل القواعد”. لقد نشرتها على نفقتها بعدما رفضها ناشر رواياتها السابقة، ومنها روايتها “ألبرت تاون” المنشورة عام 1980 والتي تتحدث عن عمليات غير قانونية لتوظيف عمال ليبيين في مالطا.
الماضي الغامض
بعد وفاة والدها، تذهب “آماندا” إلى أمها “بربارة” التي تركتها منذ 25 عاماً، بدعوى تسوية بعض الأمور ومعرفة مصير بيت العائلة، لكنها في الحقيقة تفتح باب الماضي المؤلم والمخيف والغامض: لغز اختفاء أمها، ولغز مقتل خالتها “كاثي” قبل سنوات في حادث تفجير إرهابي. خالتها كاتبة القصص البوليسية وخالقة شخصية دينيس كاستيللو المحقق الشرطي المحبوب من جماهير القراء في مالطا. هل ماتت “كاثي” بالصدفة؟ هل انتقمت لها أختها من قاتليها؟ وما دور العقيد القذافي الماثل كشبح في الصور والحياة السياسية المالطية طوال عقود؟
الجزء الأول عنوانه “أصوات ما بعد الموت” وفيه تتأمل “آماندا” صورة لوالدها تجمعه بالقذافي. فهل استمدت كاثرين شخصية “كاستيللو” من شخصية “روبرت” زوج شقيقتها “بربارة” الذي كان يعمل مفتشاً في الشرطة، عندما زار الزعيم الليبي مالطا في العام 1976؟ هل كانت “بربارة” ترى أن زوجها ومعه الموظف الرئاسي “تومي غريك” متورطان في قتل شقيقتها لكشفها فساداً كانا ضالعين فيه مع القذافي وأسرته ونظام حكمه؟
كلير أتسوباردي كاتبة مالطية من مواليد عام 1977 تكتب للأطفال وللكبار ونالت العديد من الجوائز. ترأس قسم اللغة المالطية في جامعة مالطا، ولأعوام عديدة مضت، كانت عضواً نشطاً في مؤسسة إنيزياميد، وهي منظمة غير حكومية هدفها دعم الأدب في مالطا وخارجها. وخلال عملها في تلك المنظمة شاركت كلير أتسوباردي قي تنظيم مهرجانات وورش أدبية، غالباً بالتعاون مع مؤسسة “الأدب عبر الحدود”. تُرجمت أعمالها إلى لغات عديدة. “كاستيللو” هي روايتها الأولى وصدرت عام 2018. لها مجموعة قصصية ترجمت إلى العربية في دار صفصافة في القاهرة عام 2019 تحت عنوان “الكل خلَّف اسماً وراءه”. إعتمد مترجم رواية كاستيللو على نسخة مترجمة إلى الانجليزية لم تنشر بعد، أنجزها ألبرت غات مدير قسم اللغويات في جامعة مالطا وهو زوج الكاتبة. كما قام المترجم بالرجوع كثيراً إلى النسخة الأصلية المكتوبة بالمالطية وإلى الكاتبة نفسها.