1

ثورة على الثورة

سليمان جودة

سليمان جودة صحافي وكاتب مصري

تحوّلت الشابة الإيرانية مهسا أميني إلى ما يشبه كرة الثلج، التي تظل تتضخم كلما تدحرجت، والتي يظل حجمها يكبر ويكبر كلما انحدرت أكثر.
والذين قرأوا قرار النائب العام الإيراني إلغاء شرطة الأخلاق، لا بد أنهم قد راحوا يفتشون عن أسبابه البعيدة، لأنهم بالطبع يعرفون أسبابه القريبة.
أما أسبابه القريبة فهي الاحتجاجات التي انطلقت في إيران مع بدايات الخريف على يد بعض الفتيات، ثم ما لبثت أن اكتسبت فتيات أكثر، واجتذبت إليها سيدات أكثر وأكثر.. ومع مرور الوقت انضمت فئات أخرى إلى الفتيات والسيدات، وبالذات طلبة وطالبات الجامعات، وبدت الاحتجاجات وهي تشتد في مرحلة بعد مرحلة ويتسع نطاقها، وبدت حكومة المرشد علي خامنئي وهي توشك أن يفلت منها الزمام.
كانت هذه هي الأسباب القريبة التي كنا نتابعها على مدى أسابيع مضت، ولم تكن المشكلة في الاحتجاجات في حد ذاتها، ولكن المشكلة كانت في استمرارها ودوامها، وكانت المشكلة في سياسة النَفَس الطويل التي ميزتها، أما الأسباب البعيدة كانت في الحقيقة سبباً واحداً، وكان هذا السبب هو مهسا أميني.
وكانت مهسا قد تعرضت للضرب والتعذيب على يد أفراد في الشرطة الملغاة، ومن شدة ما تعرضت له فإنها فقدت حياتها. وفي لحظات صارت وكأنها بوعزيزي، الذي أشعل الثورة في تونس أيام ما يسمى الربيع العربي، ورأيناها وكأنها عود الثقاب الذي يشتعل بالقرب من كوم قش كبير.
وعلى مدى أسابيع هذه الثورة التي أشعلها مصرع مهسا، كان نظام حكم المرشد لا يكاد يصدق عينيه، وكان يتابع ما يجري على أرض بلاده وهو لا يدري ماذا يحدث ولا ماذا بالضبط يجري، وكان يتابع في كل الحالات وهو بين مصدق ومكذب: كان بين مصدق لأنه يرى الحاصل بعينيه، وكان بين مكذب أن يكون جيل أحفاد الثورة على هذه الدرجة من الجرأة عليه.
وليس تعبير «أحفاد الثورة» من عندي، ولكنه تعبير أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وهو يتابع مع العالم اتساع نطاق الحريق الذي يمسك في جلباب المرشد.
ولا يشير تعبير الرئيس الفرنسي إلى شيء، قدر ما يشير إلى أن ما نراه أمامنا من جانب أحفاد الثورة، هو بمثابة ثورة منهم على الثورة التي قام بها الخميني في .
وعلى طول الفترة من موت مهسا واشتعال الثورة إلى اليوم، كان نظام المرشد يتهم جهات خارجية بإشعالها، وكان يخص الولايات المتحدة الأميركية بهذا الاتهام، وكان يردده بلا توقف، وكان يقمع المحتجين ويتعهد بالمزيد من القمع، وكان يكتشف في كل المرات أن ذلك كله لا ينتج في أصل الدعوى كما يقول أهل القانون.
ولم يكن ينتبه إلى أن حضور الجهات الخارجية مسألة واردة، وأن وجود المحرضين من خارج إيران أمر جائز، وأن هذا على بعضه قائم بين الدول وبعضها، وليس بين طهران وواشنطن فقط، إذا افترضنا أن العاصمة الأميركية كانت تحرض بالفعل، ولكن ما لم يكن يريد أن يراه في الوقت نفسه، أن التحريض من جانب أي جهة خارجية لا يؤدي إلى شيء، ما لم تكن الأرض في الداخل جاهزة، وخصبة، ومهيأة لأن تستقبل.
وكان في قرار إلغاء جهاز شرطة الأخلاق ما يقول إن حكومة المرشد قد أفاقت، حتى ولو كانت إفاقتها متأخرة، وأنها قد أقلعت عن عنادها، حتى ولو كان إقلاعها متأخراً. وكان قرار الإلغاء يقول إن الخطأ كان في ضرب مهسا وتعذيبها، ولكنه كان أيضاً في إنشاء جهاز بهذا المسمى في الأصل.
وكان في قرار الإلغاء معنى آخر أعمق، وكان هذا المعنى أن الشباب الإيراني يرفض الوصاية التي تمارسها عليه حكومته، من خلال جهاز لا مثيل له لدى أي حكومة، وكان في استمرار الاحتجاجات كل هذه الأسابيع ما يقول إن الرفض هو للوصاية كفكرة، قبل أن يكون رفضاً لشرطة الأخلاق كجهاز، وقبل أن يكون رفضاً للاعتداء على حياة الشابة التي ماتت.
كان هذا هو المعنى الذي رأته حكومة المرشد بالتأكيد، ولو لم تكن رأته ما كانت قد اتخذت قراراً يتعامل مع أصل المشكلة لا مع المشكلة ذاتها.
ولو شاءت حكومة خامنئي لكان عليها أن تلتفت منذ الآن إلى أن الحريق الذي أمسك في جلباب المرشد، لأسباب تتعلق بوصاية داخلية رفضها الشباب، يمكن أن يشتعل في طرف آخر من الجلباب ذاته لأسباب تتعلق بوصاية خارجية من نوع مختلف.
فالوصاية في الداخل دفعت شباباً في أنحاء البلاد إلى أن يرفع راية العصيان، ولكن الوصاية في الخارج نطاقها أوسع بكثير، لأنها ممتدة من بغداد، إلى دمشق، إلى بيروت، إلى صنعاء، وهي عواصم ترسل الإشارات إلى المرشد من فترة إلى فترة، وفي كل إشارة تقول إن الوصاية التي تحاولها حكومته عليها مرفوضة، وأن شعوب هذه العواصم لا تقر بها ولا تقبلها.
وليس من الصعب رصد إشارات كهذه لا تتوقف العواصم الأربع عن إرسالها، ولا ترغب في شيء قدر ما ترغب في أن يحسن خامنئي قراءة ما ترسله. والأمل هو في أن تجد الإشارات الصادرة من العواصم الأربع مَنْ يجيد قراءتها بين رجال المرشد، وأن تكون القراءة من تلقاء نفسها ومنذ الآن، قبل أن يأتي وقت تقرأها فيه طهران وهي مرغمة، ثم وهي مضطرة كما حدث في موضوع شرطة الأخلاق.
فالاحتجاجات القائمة ليست الأولى، وإن كانت الأولى من نوعها، ومن قبل كان كل احتجاج يرسل أكثر من إشارة مبكرة في كل مرة، ولكن أحداً ممن حول المرشد لم يكن يريد أن يرى، وإذا رأى فإنه لم يكن يريد أن يقرأ ما ترسله الاحتجاجات واحداً بعد الآخر.
فلما سقطت أميني، ولما خرجت الفتيات والسيدات احتجاجاً، ولما دامت الاحتجاجات أسبوعاً، واثنين، وثلاثة، وعشرة، لم يكن هناك مفر من القراءة، ولم يكن هناك بديل عن الانتباه، ولم يكن هناك طريق آخر غير طريق الالتفات إلى ما لا هرب منه ولا من معناه.
وما يجوز من الغضب بين الإيرانيين في الداخل، يجوز بين الشعوب التي تواجه الوصاية الإيرانية في الخارج، لأن الرغبة في فرض الوصاية واحدة في الحالتين، ولأن الوصاية واحدة أيضاً، واختلافها من حالة إلى حالة هو اختلاف في النوع، وليس اختلافاً في الدرجة. وما قام به الشباب في الداخل، يمكن جداً أن تقوم به الشعوب في العواصم الأربع في الخارج، ويمكن أن يفاجئ إيران في جوارها، بمثل ما فاجأتها انتفاضة الشباب بما لم تكن تتوقعه، ولا كانت تتحسب له أو تنتظره.
قرار إلغاء جهاز شرطة الأخلاق ليس قراراً في الهواء، ولا هو قرار من فراغ، ولكنه قرار يحمل بين طياته توجهاً خفياً نحو تعديل سلوك الحكومة مع مواطنيها، ولا تحتاج الحكومة نفسها إلى شيء قدر حاجتها إلى قرار آخر يعدل من سلوكها في الإقليم، لأنه سلوك ينذر بانتفاضة أوسع، وأعنف، وأشد.
لقد غاب عن حكومة المرشد أن ترى بدايات رفض الوصاية في الداخل، ولكن أمامها أن ترى بوادر رفض الوصاية في الخارج وهي تولد في الأفق وتتشكل.
والأهم أن تكون طهران جادة في قرار إلغاء شرطة الأخلاق، وألا يكون القرار مجرد شكل تمتص به الغضب، وألا يغلب الطبع على التطبع في الموضوع.

التعليقات معطلة.