العراق والمخدّرات … حرب غير متكافئة
إياد الدليمي
أدخنة تتصاعد بعد إتلاف 6 أطنان من المخدّرات في بغداد (18/12/2022/فرانس برس)+الخط–
ما زالت الذاكرة تختزن مشاهد من الأفلام المصرية في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي، يوم كانت المخدرات وتجارها ثيمة رئيسية في العديد من تلك الأفلام. يومها، كنّا، نحن الذين نعيش براءة العراق الخالي من المخدّرات، نتساءل عن هذه الآفة، من دون أن نعرف شكلها أو لونها ولا حتى أسماءها، ما خلا تلك التي كانت تعرضها بعض تلك الأفلام، فيومها كان العراق من بين بلدان العالم القليلة الخالية من هذه السموم، بدعم من قانون يعاقب بالإعدام كلّ من يتعاطى هذه المادّة أو يتاجر بها.
قال لي، قبل أيام، أستاذ جامعي في إحدى الكليات التابعة لجامعة بغداد، وهي كلية مخصّصة للبنات، إنّ عمادة الكلية قررت إغلاق النادي المركزي للكلية (الكافتيريا) بعدما ثبت لديها أنّ المكان قد تحوّل إلى بؤرة لتعاطي طالبات الكلية المخدرات وبيعها وشرائها… نعم طالبات كلية في بغداد يبعن المخدرات ويشترينها ويتعاطينها.
تعود قضية المخدرات في العراق إلى مرحلة ما بعد الغزو الأميركي عام 2003، يوم فُتحت حدود العراق على مصراعيها بعدما حلّت القوات الغازية كلّ الأجهزة الأمنية العراقية، وفشلت في إعادة تشكيلها إثر تحويل القوى والأحزاب والمليشيات المسلحة أفرادها إلى منتسبين في تلك القوات والأجهزة الأمنية ليدخل العراق من نافذة الفوضى، لكن من الباب الواسع، تاركاً النافذة مشرعة على فوضى من نوع آخر.
في البداية، كان العراق ممرّاً لهذه السموم التي غالباً ما تُهرّب من إيران، لتنتقل بعدها إلى دول الخليج وإلى سورية وبعدها إلى وجهات أخرى. يومها كان بعض المسؤولين العراقيين يخرجون متباهين أنّ العراق دولة ممر لا دولة مستقر لهذه المخدرات وأنّ العراق خالٍ من المتعاطين.
عملية تتبّع تجّار المخدّرات في العراق ومهربيها عادة ما تفشل، بعد أن يتبيّن أنّ وراءها أطرافاً حكومية وحزبية
شيئا فشيئاً، تحول العراق إلى واحد من البلدان التي تستهلك كمياتٍ كبيرة من المخدرات، ولم يعد الحال مقتصراً على المحافظات الحدودية مع إيران، بل امتد ليصل إلى محافظة الأنبار غربي العراق، التي وجدوا لها منفذاً أقرب من إيران؛ سورية، فمن المنفذ الحدودي بين البلدين باتت تدخُل كميات كبيرة من هذه المخدرات، برعاية (وإشراف) الفصائل المسلحة التي تسيطر على المعابر الحدودية أو التي تنشر مليشياتها في محافظة الأنبار بحجة محاربة “داعش”.
وعلى ذكر الفصائل المسلحة ودورها في هذه التجارة القبيحة، قال مسؤول أمني عراقي في جهاز المخابرات لوسيلة إعلام أجنبية إنّ عملية تتبع تجار المخدّرات في العراق ومهربيها عادة ما تفشل، بعد أن يتبيّن أنّ وراءها أطرافاً حكومية وحزبية، خصوصاً الأحزاب ذات الفصائل المسلحة.
يتذكّر العراقيون قبل عدة أشهر يوم صدر عفو رئاسي عن نجل محافظ النجف الذي اعتقل بتهمة الاتجار بالمخدرات، أما متابعة الأخبار اليومية العراقية فإنّها تُنبئك من يقف وراء هذه التجارة، حيث غالباً ما تقرأ أخباراً عن هروب تجار مخدرات من السجن في أثناء عملية نقلهم أو ما شابه، وكأنهم استنسخوا كثيراً من ثيمات أفلام مصرية كنا نشاهدها حقبة الثمانينيات والتسعينيات.
تقود مليشيات مسلحة وأخرى تابعة لفصائل سياسية وأحزاب تجارة المخدّرات، بل هي، إن شئنا الدقة والتوصيف الدقيق، جزء من العمل الاقتصادي والمشاريع التي تدخل في تمويل عديد من تلك القوى والمليشيات والأحزاب، وهي، وإن سعت الحكومة، في أحيانٍ كثيرة، إلى الظهور بمظهر المناوئ لهذه التجارة، إلّا أنّ أدلة كثيرة تشير إلى تورّط حتى أجهزة الأمن الرسمية في هذه التجارة، بل تورّط شخصيات مسؤولة فيها.
ليست هناك جدية في معالجة ملف المخدرات في العراق، في ظل الواقع المتردي
قبل عدة أشهر، قال مسؤول أمني عراقي إنّ نسبة المتعاطين للمخدرات داخل الأجهزة الأمنية ربما تصل إلى 50%… نسبة لا تكاد أن تصدّق، لكن هذا واقع الحال، فهذا التصريح الذي سعت لاحقاً جهات رسمية إلى محاولة ليّ عنقه، من خلال تفسيرات لما كان يقصده هذا المسؤول، يظهر وجه الواقع الكارثي الذي يعيشه العراق مع هذا الخطر الذي بات يتهدّد حتى طلاب المدارس الابتدائية.
لا يمكن القول إنّ هناك جدّية في معالجة ملف المخدرات في العراق، في ظل هذا الواقع المتردي، وفي غياب تشريع حقيقي ورغبة وقدرة من الحكومة في ملاحقة المتاجرين والمهرّبين وحتى المتعاطين. لقد وصل الأمر إلى تهديد وملاحقة حتى القضاة الذين ينظرون في قضايا المخدّرات، والطامة الكبرى أنّ بعضهم كانت تصل إليهم تهديدات حتى من مسؤولين في الحكومة، ما يؤكّد عمق الكارثة التي بدأت تحلّ في العراق.
لم يقف الأمر عند تحوّل العراق إلى ممرّ أو مستقر للمخدرات، بل تحوّل إلى منتج لها، إذ تفيد تقارير بأنّ هناك مزارع عديدة تنتج بعض أنواع المخدرات، وهي في غالبها مزارع تابعة لمليشيات مسلحة تتبع فصائل حزبية وسياسية، في حين يفيد تقرير الهيئة العامة لمراقبة المخدّرات التابعة للأمم المتحدة والصادر عام 2021 أنّ سورية ولبنان تحولتا إلى دولتين مصدرتين لحبوب الكبتاغون، ومن بين أسواقها العراق.
هناك كارثة تفتك بالعراق وشبابه، لن توقفها الحكومة وأجهزتها الأمنية بعد أن تحوّلت إلى أداة تستخدمها الجهات التي تُهرّب هذه السموم وتنتجها وتوزّعها على فئات الشعب، لتفتك بما تبقى من جسد البلاد وتهدم ما تبقى له من قيم مجتمعية … إنّها حربٌ غير متكافئة، تلك التي تشنها المخدرات على العراق، كونها تتلقى الدعم من الجهات التي يُفترض بها أن تتصدّى لها.