كوبرنيكوس: الدولة ليست مركز الاقتصاد
خالد البري
في القرون الوسطى، سعياً إلى حل المشكلة الفلكية، اكتشف كوبرنيكوس أن محاولات سابقيه لحل المشكلة لم تنجح، بل إن جهودهم الكبيرة ضخّمتها وأضافت إليها طبقات من التعقيد، والسبب أنها جميعاً استثنت احتمال أن يكون الفساد في الأساس. بانفتاحه على هذا الاحتمال، ومن ثم تغيير هذا الأساس، انتظمت الأمور في مساراتها، واستقامت الحسابات الفلكية، ومن ثم أمكن للتراكم المعرفي فوق الأساس السليم أن يعلو حتى يناطح في عصرنا الكواكب. لم يكن كوبرنيكوس وحيداً في تحديه وقطيعته مع فكرة راسخة وشائعة مثل مركزية الأرض. القطيعة مع ما سبق عامل مشترك في تجارب تبدل الحال، سواء في المعرفة العلمية، أو التحولات الاقتصادية الإيجابية، أو التطور المجتمعي. آدم سميث فعل مثله حين بلور ملاحظاته عن الممارسات الاقتصادية والإدارية الحديثة، وقطيعتها مع أفكار الاقتصاد الريعي. وكذلك تشارلز دارون، إذ فسر ملاحظاته حول مسار التاريخ الطبيعي. الأمثلة تمتد إلى الطب والفيزياء والجغرافيا. وفي كل مرة، بعد هذا التويست، بدا التالي بديهياً، بحيث تستعجب الأجيال اللاحقة كيف لم تفكر البشرية فيه من قبل.
الأعجب أن تفسير لزومية هذا التحول في حينه بسيط. إن كان نوع معين من المعرفة، وتطبيقاته، لا يحقق نجاحاً، لا يشفي مرضى، ولا يفسر ظواهر، ولا يزيد ثروة، فلا بد أنه سيئ. أليس كذلك؟ بلى. بهذه البساطة؟ نعم. فلماذا لا يسود هذا المنطق التجريبي إذن؟ لأن أمامه مصدات كالجبال.
أولها التعود. والتعود راحة وأمان، مجال حيوي نشأ فيه أصحاب نفوذ، يدينون له بالفضل، ويقايضونه بما مضى من أعمارهم وإنتاجهم وسيرتهم. لاحظوا أن هؤلاء ليسوا فقط أصحاب اليد العليا في بيئة ما، بل أيضاً منافسوهم عليها. أملهم في حيازتها مقرون ببقاء نفس الأفكار التي يجيدون شعاراتها، مقطوع بغيابها. هم أيضاً أصحاب نفوذ جزئي في ظلها. لا يستطيع كيان شَغْلَ موقع المجابهة إن لم يكن له من النفوذ والجمهور ما يعبر به عتبة الرجاء ويمنحه وقود التحدي.
ثانيها الجهل. تحدي المعرفة الراسخة يتطلب وجود ذوي حيثية معرفية مغايرة، قادرة على المناقشة. وهذه عملة نادرة في مجتمعات التفكير الحشدي والشللية. ولسبب منطقي أيضاً.
العاملان السابقان يجتمعان لتحقيق غرض جانبي، لكنه ناجع في تكريس الفشل؛ إذ يسهل تحييد وتشويه أصحاب التفكير المختلف وحذفهم تماماً من المعادلة، كي لا يزيد الصراع صعوبة، هذا أحد الأغراض النادرة التي يجتمع عليها الخصوم. وهو يُدخل المجتمع في دائرة مفرغة، ضيق معرفي راسخ، أنصاره على الطرفين المتقابلين يدافعان عن (ماكيت) المشروع نفسه، ويتصارعان على امتلاك الأرض التي يبنى عليها. أما من يطرح نظرة مختلفة فمنبوذ منبوذ منبوذ. أطروحة كوبرنيكوس حاربتها حركة التقليد وحركة الإصلاح كلتاهما.
في ظل الجهل لا يغيب الصراخ بالاعتراض، لا تغيب المعارضة التي تشرب من نفس البئر المعرفية التي تشرب منها البلدة، بل تزدهر، تتقوى بكونها تنطق عن نفس الهوى الشائع، وتمنح الأمل المفقود. ويزداد الجهل قوة إن كان مقدساً. يستطيع حماية نفسه بضراوة، وبعلياء أخلاقية، وبراحة ضمير. الجهل الاقتصادي في كثير من الدول المتعثرة يكتسب قداسة من الدعاية الأخلاقية المصاحبة له، من التسامي والتعالي الذي لا يتكلف سوى حشر بعض كلمات في خطابه: الفقراء، العدالة، المساواة. يجمع بها بين غرضين، يحصن أفكاره من النقد، ويتسول لها القبول والشعبية.
أما ثالث العوامل وأخفاها، وإنْ كان أكثرها شيوعاً، فشعور الاستحقاق. وهو شعور شائع بالجدارة الذاتية، يمتد إلى شعور بالجدارة للأفكار التي أتبناها أنا حتى لو كنت لم أختبر غيرها. ثم الوجه الأخطر لنفس العملة: الشك في من يحمل أفكاراً مغايرة. لا بد أن يكون هذا الإنسان شريراً، لا بد أن يكون فاسداً أو مأجوراً، ما من سبب آخر يجعله يفكر بطريقة غير التي أفكر/ نفكر بها. بسهولة نتخلص من هؤلاء ونعود إلى ساحة الصراع بين متنافسين تختلف شخوصهم ولا تختلف أفكارهم. ويقتصر العلاج على تبديل الأشخاص للإمساك بنفس المفك، والمحاولة مع نفس المسمار، بنفس الطريقة.
نخرج من هذا كله بـفكرة شعبوية واحدة ترتدي قناعاً جديداً كل عيد. نغلق التليسكوب عن تجارب العالم، عن كل الاحتمالات الأخرى، ونعيش ما عشنا.
لماذا لا نجرب أن نستعير عقل كوبرنيكوس، الدولة ليست مركز الاقتصاد. أو ريتشارد داروين، إن عطلنا التنافسية تراجعت قدرتنا وتنامت قدرات العالم التنافسي، وتضاءلت فرصتنا. القوانين المقيدة للتنافسية مقيدة للاقتصاد. ووجود كيان ضخم صاحب نفوذ في ملعب الاقتصاد يقضي على هذه التنافسية. لا يمكن لجهة أن تكون منافساً وحكماً في الوقت نفسه.