الاقتصاد العراقي… معادلة الدينار والدولار
د. ثامر محمود العاني مدير إدارة العلاقات الاقتصادية بجامعة الدول العربية – أستاذ الاقتصاد القياسي بجامعة بغداد سابقاً
يعدّ سعر الصرف في العراق واحداً من أهم محددات المستوى النسبي لمتانة الاقتصاد، فهو أكثر وأهم المقاييس التي تتم مراقبتها وتحليلها والتلاعب بها من قبل الحكومة، وهناك عوامل مؤثرة في تحديد سعر الصرف، من أهمها كمية النقود، ومعدلات الفائدة على النقود، والتضخم المحلي والعالمي السائد، وموقف ميزان المدفوعات، والاحتياطي النقدي، وتدخل البنك المركزي في السوق المصرفي، وعلاقة العملة المحلية بالعملات الأجنبية، والسياسة الاقتصادية والمالية للدولة، والفساد، وعوامل أخرى تتعلق بدرجة الاستقرار السياسي في العراق، إذ يمثل متغيراً مهماً مقارنة بالدول الأخرى في المنطقة العربية والعالم، بجانب القصور في الإنتاج المحلي من السلع والخدمات.
إن الاحتياطي النقدي في دولة ما يتمثل في مقدار ما تملكه هذه الدولة من العملات الأجنبية والذهب، ومن الجدير بالإشارة أن العجز الكبير في ميزان المدفوعات قد يشير إلى ضرورة تخفيض سعر صرف العملة، ولكن إذا كانت الدولة تحتفظ باحتياطي كبير فإنه يمكن عدم اللجوء إلى تخفيض قيمة العملة على الأقل في الأجل القصير، وهذا ما يجب أن يحصل في العراق لعبور الأزمة، إذ الفائض بلغ أكثر من 90 مليار دولار في الأجل القصير على أقل تقدير، بسبب ارتفاع أسعار النفط بعد منتصف عامي 2021 و2022.
ومن العوامل الأخرى التي تؤثر على سعر صرف الدينار مقابل العملات الأخرى، درجة الاستقرار السياسي في الدولة، إذ الدولة ذات الاتجاهات السياسية الواضحة والمستقرة تتمتع عملتها بدرجة من الثبات والقوة، أما الدولة التي تتعرض للاضطرابات والفساد تكون عملتها محل عدم ثقة وتتعرض قيمتها للانخفاض، حيث يلجأ المتعاملون في أسواق العملات إلى العملات الأكثر ثباتاً.
ففي ظل هذه الظروف، أقدمت الحكومة العراقية على تخفيض قيمة الدينار مقابل الدولار، إذ وصل سعر الصرف إلى حدود 155 ديناراً لكل دولار تقريباً، مقارنة مع 120 ديناراً قبل التخفيض. إن تخفيض قيمة العملة المحلية هو خفض سعر الصرف الرسمي لتلك العملة مقابل عملة دولية مرجعية، حيث يقل عدد الوحدات من العملة الأجنبية التي يمكن الحصول عليها مقابل وحدة من العملة الوطنية، وهو يختلف عن انخفاض سعر الصرف الخاضع لآلية العرض والطلب في السوق، وهنا يجب التمييز بين التخفيض والانخفاض، إذ التخفيض إجراء إداري تقدم عليه الدولة لأسباب كثيرة، بينما الانخفاض يحصل بفعل السوق.
إن تخفيض قيمة الدينار العراقي في الوقت الحاضر لا يبدو ضرورة ملحة، إذ إن السياستين النقدية والمالية غير قادرتين على اتخاذ الإجراءات الكافية لكبح الضغوط التضخمية الناتجة عن تخفيض سعر صرف الدينار بسبب عدم فاعلية أدوات السياستين، لأسباب سياسية واقتصادية ومالية، ما يسبب حالة من عدم الاستقرار الأمني والسياسي والاجتماعي والاقتصادي بسبب طبيعة سلوك السوق المالي والمصرفي، كما أن قرار تخفيض قيمة العملة الوطنية في الظروف غير المستقرة قرار ذو آثار سلبية مضاعفة ويخلق توقعات لمزيد من التخفيض، ما يربك أوضاع السوق وزيادة الطلب على الدولار مع ضعف الثقة بالعملة الوطنية، كما يؤدي تخفيض قيمة العملة المحلية إلى ضغوط تضخمية، يتحمل معظم المواطنين آثارها السلبية نتيجة خفض القدرة الشرائية للمواطنين، علماً بأن استقرار سعر الصرف يلعب دوراً مهماً في تدفقات الاستثمارات الأجنبية، ويعطي خيار اللجوء إلى تعديل سعر الصرف إشارة سلبية للمستثمرين.
ويلجأ العراق إلى تخفيض العملة من أجل سد عجز الموازنة العامة بسبب تزايد النفقات، ومع ذلك، إذا كان هدف تحسين الميزان التجاري مستهدفاً، فإن تخفيض سعر صرف الدينار لا يحقق هذا الهدف بالمستوى المطلوب، إذ القطاعات الحقيقية، الصناعة والصناعات التحولية والزراعة والخدمات، في أدنى مستوياتها، ونسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي منخفضة، وصادرات العراق غير النفطية قليلة جداً ولا تشكل أي نسبة في الميزان التجاري، والقطاع الخاص غير فاعل أيضاً، والنهوض بهذه القطاعات سيستغرق سنوات طويلة مع وجود خطط وسياسات فعالة، وعادة يجري تخفيض قيمة العملة المحلية في الدول التي لها قدرات تصديرية عالية، كما أن السياسة الجمركية غير فاعلة في الوقت الحاضر، وهي تمثل الأساس لحماية المنتوج المحلي لتحفيز الإنتاج.
وفي الختام، ينبغي قبل اللجوء إلى خيار تخفيض قيمة الدينار استنفاد الحلول الأخرى. وقد تبين من خلال دراسات كثيرة أن التخفيض لا يحقق هدف سد العجز في الموازنة إلا بقدر قليل جداً لا يقارن بالتأثيرات السلبية الكثيرة التي يمكن أن تحصل من تخفيض العملة، وأن الإصلاح الشامل يحقق أهدافاً تصحيحية هيكلية توفر استدامة مالية، وتكون له آثار إيجابية اقتصادية ومالية واجتماعية. وعليه، يجب الأخذ بالاعتبار معادلة الدينار والدولار عند إجراء أي قرار يخص الدينار، وأثره على المستوى المعيشي للعراقيين، كما يجب تنويع المحفظة من العملات الدولية الأخرى، اليورو والجنيه الإسترليني واليوان وغيرها من العملات، للخروج من سيطرة الدولار وحده.