كيسنجر يستعيد التاريخ عبر سير قادة عالميين
كتابه يستعرض تجارب ست شخصيات أسهمت في تشكيل العالم المعاصر
وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر (أ ف ب)
إذا استثنينا فلاديمير بوتين وشي جينبينغ وناريندرا مودي وبنيامين نتياهو، الذين يقودون بلدانهم إلى الوراء بطرق مختلفة، فإن العالم المعاصر لا يقدم أمثلة على القيادة السياسية البارعة التي يدوم تأثيرها لأمد طويل. ولذا فإن كتاب هنري كيسنجر الجديد المعنون “القيادة، ست دراسات في الاستراتيجية العالمية” يبدو للوهلة الأولى أنه قد جاء في الوقت المناسب، ومن المحتمل أن يكون قيماً، إذ يعاين كيسنجر قدرة القادة الكبار على التعامل بنجاح مع الظروف التي يواجهونها، وكذلك تمكنهم من إحداث تغيير عميق في التاريخ الجاري حولهم.
ويغطي القادة الذين يختارهم كيسنجر رقعة واسعة من تاريخ النصف الثاني من القرن العشرين. يظهر كونراد أديناور، أول مستشار لجمهورية ألمانيا الاتحادية، كرجل متواضع بما يكفي من أجل تحمل العبء الأخلاقي لهزيمة هتلر، وقوي إلى حد كافٍ كي يمنح بلاده المنقسمة “الشجاعة للبدء من جديد” مع ديمقراطية راسخة، إضافة إلى بصيرة كافية لرؤية الحاجة إلى أوروبا مؤتلفة فيدرالياً. وتتسم دراستاه عن شارل ديغول ولي كوان يو، وهما المهندسان اللذان صمما فرنسا في مرحلة ما بعد الحرب وسنغافورة الحديثة، على التوالي، بالنضارة والجدة، وتثيران الاهتمام أيضاً.
وإلى حد بعيد، يتكون الفصل الذي خصصه كيسنجر لتناول الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، وكذلك بدرجة أقل، الفصل الخاص بالزعيم المصري أنور السادات، من إعادة سرد ما قد كتبه مرات عدة من قبل عن انسحاب الولايات المتحدة من فيتنام، والانفتاح على الصين، والتعامل مع روسيا والدبلوماسية المكوكية في الشرق الأوسط. وأحياناً، تكافح قصة السادات كي تستقل عن قلب قصة سلفه القوي جمال عبدالناصر. ويظهر ذلك بشكل حقيقي نابض بالحياة في سباق حرب 1973 مع إسرائيل والتداعيات الدبلوماسية لذلك الصراع، بما فيها اتفاقات “كامب ديفيد” التي يجدها كيسنجر جزءاً من جهد أوسع نطاقاً (لقي الفشل في نهاية المطاف) من قبل السادات لخلق “نظام جديد في الشرق الأوسط”. وتتناول الدراسة الأخيرة رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارغريت تاتشر التي ينسب كيسنجر إليها الفضل في إنقاذ المملكة المتحدة من دوامة الانهيار المميت. وقد عانت تلك الدراسة الضعف الذي سببه التوصيف المتكرر لدفء تاتشر و”سحرها”، وهي سمات يصعب نسبها لزعيم معروف، حتى بالنسبة إلى المعجبين به، وذلك بسبب الانقسام العميق والميل إلى التسلط.
إذا نظر إلى كتاب “القيادة” كعمل تاريخي أو سرد لمذكرات، فإن هذا المؤلف يأتي بمنزلة مقاربة مثيرة للاهتمام، عن ستة أفراد استثنائيين. ويصح ذلك على رغم الضعف الذي يصيبها بسبب حاجة كيسنجر، حتى مع اقترابه من سن المئة عام، إلى إبقاء نفسه في دائرة الضوء، وتلميع إرثه باستمرار وصقل النقاط الخشنة التي يحتويها سجله في واشنطن والمستمر منذ نحو نصف قرن، بيد أن العنوان الفرعي للكتاب، “ست دراسات في الاستراتيجية العالمية”، يعلن أن القراء سيتعلمون أشياء ذات صلة بالعثور على حلول للتحديات الدولية الراهنة والمستقبلية، لا سيما التحديات على المستوى الدولي. ويفشل الكتاب في هذه النقطة، لأنه لا يترك بشكل مقنع على الإطلاق، الأماكن والفترتين الزمنيتين التي حددت ملامح مسيرة كيسنجر طوال حياته. يتمثل أحد هذه الأماكن في أوروبا في الفترة الممتدة من بداية القرن السابع عشر وحتى القرن التاسع عشر، أي بين “معاهدة وستفاليا” [1648] واندلاع الحرب العالمية الأولى [1914].
وهي حقبة توصف بأنها مرحلة سادتها سياسة توازن القوى. وثمة اقتباس من نابليون يلفت فيه إلى أنه كي تفهم شخصاً ما عليك أن تعرف ما الذي جرى في العالم حينما كان في العشرين من عمره. وباستعادة ذلك الاقتباس، سيجد المرء جدوى في التذكير بأن كيسنجر كتب في شبابه أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه، تناول فيها “مؤتمر فيينا” الذي تتالت فصوله من 1814 إلى 1815. [أنهى مؤتمر فيينا حقبة الاضطراب التي رافقت حروب نابليون بونابرت، وأسس لاستقرار عرف باسم سلام المئة عام]، بالتالي لم يتزعزع أبداً إخلاص كيسنجر لتلك الحقبة وفن إدارة الدول الذي ساد فيها.
وتتمثل الفترة الزمنية الثانية [التي لا يغادرها كيسنجر] في “الحرب الباردة” التي عمل فيها كيسنجر ضمن صفوف الحكومة. وقد رسمت معالم تلك الحرب عبر التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والدول الصغيرة التي أصبحت شريكة بالوكالة [لأحد طرفي ذلك التنافس] بشكل غير طوعي.
وكذلك يكتب كيسنجر أن الأشخاص الستة الذين استقى منهم موضوعات كتابه، كانوا “مهندسي النظام العالمي في فترة ما بعد الحرب” [العالمية الثانية]. قد يكون هذا صحيحاً، لكن هذا النظام قد انتهى. إن الفوضى الحالية مختلفة تماماً، بالتالي لا نجد في تلك السير الذاتية الموجزة سوى القليل عن الاستراتيجيات التي يمكن أن تعمل على ترويض هذه الفوضى.
فئران ورجال
في الغالب، يعرف الأميركيون شارل ديغول كحليف متغطرس لايطاق في الحرب العالمية الثانية. وقد رفضه الرئيس فرانكلين روزفلت باعتباره شخصاً يعاني عقدة جان دارك [نجحت جان دارك في توحيد الفرنسيين حولها لمقاومة الاحتلال، مضحية بنفسها إلى حد الموت على المحرقة].
وفي المقابل، يظهره كيسنجر لنا كرجل مختلف تماماً، ويتمتع ببصيرة عسكرية عظيمة ومواهب سياسية هائلة. في يونيو (حزيران) 1940، أضحى ديغول أصغر جنرالات فرنسا بأن خدم أسبوعين كوكيل لوزارة الدفاع. ومع هذا، فحين اقتربت القوات الألمانية من باريس توجه عن طريق الجو إلى لندن، “ولم يكن عملياً يملك سوى بزته العسكرية وصوته”، كي يكرس نفسه كزعيم للمقاومة الفرنسية. يتضمن ذلك الأمر ما يتعدى مجرد الثقة المفرطة بالنفس. وقد أقنع رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل بالاعتراف به “كزعيم للفرنسيين الأحرار”، مع منح قوات ديغول التي لم تكن موجودة بعد، الحق في العمل كوحدات مستقلة تحت إشراف ضباطها. لقد شكل ذلك أداءً مذهلاً من قبل شخص [الجنرال ديغول]، “لم تكن السياسة [بالنسبة إليه] فن الممكن بل فن الإرادة”، وفق ما نجح كيسنجر في التقاطه بشكل مثالي.
نشأ الخلاف بين ديغول وحلفائه في زمن الحرب من تباين الأهداف. ففي حين سعت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة إلى هزيمة ألمانيا، ركز ديغول على إنهاء حكومة فيشي و”استعاد ثقة فرنسا بنفسها” بشكل سريع. وفي أواخر عام 1944، وفيما لم يكن النصر في الحرب قد تحقق، قدر ديغول أن فرنسا تحتاج إلى الدخول من جديد في ميدان الدبلوماسية الدولية بوصفها طرفاً فاعلاً مستقلاً، وتعهد مقابلة [الزعيم السوفياتي] جوزيف ستالين. وإذ لم يستطع الوصول بأمان إلى موسكو على متن طائرة فرنسية، سلك ديغول وفق ما يروي كيسنجر، طريقاً ملتوياً تمر “عبر القاهرة وطهران إلى باكو على بحر قزوين، وأعقب ذلك برحلة استغرقت خمسة أيام في قطار خاص”. وتمكن ديغول من أن يصبح أول زعيم من الحلفاء يستطيع أن يناقش تسوية مرحلة ما بعد الحرب مع ذلك الزعيم السوفياتي. وفي وقت لاحق، وكرئيس للحكومة الفرنسية الموقتة، استطاع تمرير سلسلة من السياسات المؤثرة، بما في ذلك إرساء حق الاقتراع العام. وعلى رغم ذلك، مع حلول عام 1946، اختلف ديغول مع السلطة التنفيذية الضعيفة على نحو تجلى في مسودات دستور فرنسا الجديد، واستقال فجأة، ليدخل في مرحلة منفى سياسي استغرقت 12 عاماً. يتتبع كيسنجر المناورات المعقدة التي أعادت الجنرال إلى السلطة وإرسائه أسس الرئاسة القوية للجمهورية الخامسة. ويغطي الفصل أكثر من ذلك بكثير، إذ يتطرق إلى تعامل ديغول مع معاناة الجزائر، واستعادة العلاقات الفرنسية الألمانية، وسياساته النووية والأطلسية [المتعلقة بحلف الناتو]، وتعامله الحاذق مع احتجاجات عام 1968 التي هددت بالتسبب في انهيار حكومي آخر، لكنها انتهت بدلاً من ذلك بـ”أول غالبية مطلقة [يحققها] أحد التجمعات السياسية في تاريخ الجمهوريات الفرنسية برمته”. 3سير شخصيات بارزة في السلطة
يقر كيسنجر بأن ديغول يمكن أن يكون “متعجرفاً وبارداً ووقحاً ومؤسياً”، لكنه يوازن ذلك كله بالتشديد على أنه “لم يظهر أي زعيم آخر في القرن العشرين مواهب أعظم [من ديغول] من حيث الحدس”. كذلك تتوافق تلك المواهب مع شجاعة ديغول في التصرف بناءً على معتقداته بصرف النظر عن مدى انفصالها عن الرأي العام. ويشير كيسنجر إلى أنه بعد مرور أكثر من نصف قرن على وفاته، لا يزال من الممكن تسمية السياسة الخارجية الفرنسية بالديغولية. ويخلص كيسنجر إلى وصف ديغول بأنه “يسير عبر التاريخ كشخصية متقوقعة، انعزالية، عميقة، وشجاعة ومنضبطة وملهمة ومثيرة للغضب، وملتزمة تماماً بقيمها ورؤيتها”.
كذلك يبدي كيسنجر إعجاباً مماثلاً حيال لي كوان يو مؤسس سنغافورة الحديثة. وعلى غرار ديغول، أراد لي كوان خلق شيء ما، تمثل في حالته، بدولة مستقرة وناجحة. وخلال ثلاثة عقود في السلطة، استطاع تحويل جزيرة فقيرة صغيرة، كانت موطناً لسكان منقسمين، صينيين وهنود وماليزيين، لا يملكون أي تاريخ أو لغة أو ثقافة مشتركة، إلى دولة متماسكة يتمتع أبناؤها بأعلى دخل للفرد في آسيا. واستطاع لي كوان فعل ذلك جزئياً من خلال سحق معارضته السياسية بسرعة ثم تولي الحكم من دون منازع. وقد تحلى بقدرة غير عادية على الابتكار في سياساته الاقتصادية والاجتماعية، وكذلك في خلق الروح الوطنية “للنجاح المشترك”، إذ اتخذ من لغة الملايو والماندرين والتاميل والإنجليزية، أربع لغات رسمية.
في سنواته الأولى، أنفق على التعليم قسطاً مذهلاً يعادل ثلث الميزانية الوطنية. واستخدم لي كوان الحصص العرقية وحصص الدخل للقضاء على الفصل [بين أبناء الأعراق المختلفة] في الإسكان. وكذلك تحدى الحكمة الاقتصادية السائدة في ذلك الوقت من خلال استقدام الشركات متعددة الجنسيات وتشغيلها بنشاط. لقد حارب الفساد، وخفض التلوث، وزرع الأشجار، وتلقى تقريراً أسبوعياً عن نظافة الحمامات في المطار، حيث قد يشكل المستثمرون الأجانب انطباعاتهم الأولى عن البلاد. ووفق تقدير كيسنجر، فقد بنى لي كوان القوات المسلحة الأكثر اقتداراً في جنوب شرقي آسيا. في المقابل، تمثل ما لم يفعله لي كوان ببناء نظام ديمقراطي في سنغافورة. وفي إشارة تحذيرية واضحة، يخلص كيسنجر إلى أن النمو الاقتصادي قد لا يكون كافياً للحفاظ على التماسك الاجتماعي في سنغافورة. وسيتعين على البلاد يوماً ما إن تجد توازناً أفضل بين “الديمقراطية الشعبية والنخبوية المعدلة”.
وفي سياق موازٍ، اتسمت سياسة لي كوان الخارجية بكونها بارعة أيضاً. لقد نجح في صد ماليزيا وإندونيسيا المجاورتين. وفي مواجهة التهديد الذي يلوح في الأفق من القوى العظمى. ووصف سنغافورة بأنها “فأر” بين “الفيلة”، ثم قرر أن يدرس عن كثب عادات الفيلة. وفي النهاية، أصبح مستشاراً يحظى بالاحترام لبكين وواشنطن، إذ نصح الولايات المتحدة بعدم” معاملة الصين كعدو منذ البداية”، خشية أن يدفع ذلك بكين إلى “تطوير استراتيجية مضادة من أجل القضاء [على مصالح] الولايات المتحدة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ”.
وفي المقابل، نبه لي كوان حكام الصين إلى ضرورة “توعية الشباب الصينيين بالأخطاء التي ارتكبتها الصين نتيجة للغطرسة والتجاوزات الأيديولوجية”، وتعليمهم كيفية “مواجهة المستقبل بتواضع ومسؤولية”. وتفوق لي كوان على معظم القادة، في فهم المعضلات التي سيطرحها نمو الصين، خصوصاً بالنسبة إلى واشنطن، وحث القادة على جانبي المحيط الهادئ على منع تحول المنافسة الحتمية [بين واشنطن وبكين] إلى حرب. من الصعب قراءة تحذيرات لي كوان من دون أن تتمنى الإصغاء إلى شخص له المكانة نفسها اليوم.
جنود أوكرانيون بمنطقة زابوريجيا في أبريل 2022 (رويترز)
إعادة التفكير في مذبحة
ستكون معالجة كيسنجر لنيكسون مألوفة بالنسبة إلى قراء كتبه السابقة. ومع استثناءات قليلة، لا يمكن التمييز بين دوري الرئيس وكيسنجر نفسه الذي عمل مستشاراً للأمن القومي، وبعد ذلك وزيراً للخارجية. إن القسط الأكبر من هذا الفصل [الخاص بنيكسون] دفاعي. وفيما يتعلق بالانسحاب المطول من فيتنام، يؤكد كيسنجر أن “المثالية الصالحة التي ألهمت البلاد [الولايات المتحدة] وجعلتها تستمر في تأدية مسؤولياتها على الصعيد الدولي في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، جرى استحضارها في سياق التنصل الشامل من دور أميركا العالمي“. لم يستطع كيسنجر في ذلك الوقت، ولا الآن، الاعتراف بأن معارضة الناس العاديين والنخب للحرب لم تنتج من محض مثالية غبية أو تعاطف أخلاقي مبالغ فيه حيال آخرين في أوضاع بائسة. ومثلاً، لقد نشأت [هذه المعارضة]، في حالة زميله الواقعي هانز مورغنتاو، من تفكير عنيد كتفكير كيسنجر، مفاده أن تلك الحرب [في فيتنام] تهدد مصالح الأمن القومي للولايات المتحدة.
[يعتبر المفكر الأميركي هانز مورغنتاو الأب الروحي لمدرسة الواقعية السياسية في الولايات المتحدة. وضع مؤلفات عدة عن السياسة العالمية. وتوفي في 1980 عن 76 عاماً].
ثمة جديد في كتاب كيسنجر يتبدى على هيئة مناقشة مطولة لأزمة عام 1971 ضمن ما شكل آنذاك الأجزاء المنفصلة من شرق باكستان وغربيها [إقليم البنغال أو بنغلاديش حاضراً]. في سياق ذلك الحدث المنسي الذي انخرطت فيه القوات المسلحة لغرب باكستان المدعومة من قبل الولايات المتحدة، جرت مذبحة راح ضحيتها عدداً يقدر بما يتراوح بين 300 و500 ألف من الباكستانيين الشرقيين ودفعت بعشرة ملايين لاجئ إلى الهند. وقد أصبح معروفاً على نطاق أوسع، بعد أن نشر غاري باس، عالم السياسة في “جامعة برنستون” في عام 2013 كتاب “برقية الدم، نيكسون، وكيسنجر والإبادة العرقية المنسية”. لقد اندلعت تلك الأزمة حينما اختار الناخبون في شرق باكستان زعيماً دعا إلى استقلال المنطقة عن باكستان. وآنذاك، أمر الديكتاتور العسكري في تلك البلاد، الجنرال يحيى خان، جيشه بسحق الحكومة الإقليمية المنتخبة حديثاً. لم تعترض الولايات المتحدة على ذلك علناً أو سراً. وواصل نيسكون وكيسنجر تزويد باكستان سراً الأسلحة، بما في ذلك طائرات مقاتلة من طراز “إف-104” وذخيرة وقطع غيار، على رغم تحذيرات محامي وزارة الخارجية والبنتاغون وموظفي البيت الأبيض من أن عمليات الإمداد تلك، لم تكن قانونية.
يصر كيسنجر على أن نهج نيكسون حيال بنغلاديش لا علاقة له بـ”انعدام الحساسية”
في النهاية، قررت رئيسة الوزراء الهندية إنديرا غاندي أن الطريقة الوحيدة لوقف تدفق اللاجئين تتمثل في إنهاء القتال. غزت الهند باكستان وسحقت جيشها، مما أدى في نهاية المطاف إلى تأسيس بنغلاديش المستقلة. وعلى رغم انتمائها إلى دول عدم الانحياز، فقد سبق للهند أن أبرمت قبل وقت قصير [من تلك الحرب] اتفاق صداقة وتعاون عسكري مع الاتحاد السوفياتي. ويدعي كيسنجر أن الاتفاق حولت الصراع “من تحد إقليمي وإنساني إلى أزمة ذات أبعاد استراتيجية عالمية”. وفي الواقع، أرسل نيكسون خلال الغزو سفناً من الأسطول الأميركي السابع إلى خليج البنغال، وحث الصين على تهديد الهند من خلال تحريك قوات إلى مناطق الحدود المشتركة بين البلدين.
ينسب كيسنجر المعارضة المتحمسة لسياسة نيكسون من قبل الدبلوماسيين الأميركيين في شرق باكستان وآخرين في واشنطن، إلى “المدافعين عن حقوق الإنسان” ممن ينادون بإطلاق “مبادرات رمزية إلى حد بعيد”. ويؤكد أن باكستان كانت “مسلحة بشكل كبير بالفعل”، ولم يكن لرفض الولايات المتحدة أن يفعل شيئاً سوى “تقليص النفوذ الأميركي”، بيد أنه يعترف أيضاً، بشكل مباشر وواضح تماماً، أن ما حدد طبيعة موقف الولايات المتحدة في الواقع يتمحور حول كون يحيى خان كان يعمل وسيطاً رئيساً في جهود الإدارة لبدء علاقات مع الصين في ظل حكم ماو تسي تونغ. وكتب كيسنجر أنه لسوء الحظ، “تزامنت المأساة التي تكشفت في شرق باكستان، وعقدت، مع اتصالاتنا في شأن تاريخ وجدول أعمال رحلتي السرية الوشيكة إلى بكين”. لن تتخذ الإدارة أي إجراء ينطوي حتى على أبعد فرصة لتعريض تلك العملية للخطر (لا يوضح كيسنجر أن تلك الرحلة الحاسمة الأولى جرت في يوليو (تموز) 1971، وهو توقيت قد يفسر سياسة البيت الأبيض قبل ذلك، لكن هذا ليس مرضياً بشكل كافٍ لتفسير صمته المستمر في الأشهر التي تلت ذلك). [انطلقت مذبحة الإبادة العرقية في بنغلاديش بتاريخ 25 مارس (آذار) 1971، واستمرت تسعة أشهر].
كانت هناك [في واشنطن] مشاعر شريرة متعصبة معادية للهند. وبالاعتماد على أشرطة نيكسون السرية، يظهر غاري باس أن نيكسون وكيسنجر قد ألهبا مشاعر بعضهما بعضاً، إذ ذكر الرئيس إن ما تحتاج إليه الهند حقاً هو “مجاعة جماعية”، وأنه لا يستطيع أن يفهم “لماذا بحق الجحيم ينجب أي شخص ذرية في هذا البلد اللعين”. في هذه المحادثات، كانت إنديرا غاندي [تلقب] بـ”الساحرة” أو “العجوزة”. ويشير كيسنجر في نقطة أخرى إلى أن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تسمح بـ”التواطؤ الهندي السوفياتي، واغتصاب صديق لنا”. [إشارة إلى الديكتاتور الجنرال يحيى خان].
ومن الواضح أن الموقف أثر على السياسة، على رغم إصرار كيسنجر على أن نهج الإدارة تجاه الأزمة لا علاقة له بما يسميه “عدم الحساسية” (وكذلك يقلل كيسنجر من شأن هذا المصطلح عبر إضافة تتضمن أن بعض المحادثات “لم تعبر عن الرقي الأخلاقي”).
أكياس ملاكمة طليت بصور فلاديمير بوتين وقادة آخرين في براغ بتاريخ ديسمبر 2018 (رويترز)
في ذلك الصدد، فإن أكثر ما يلفت الانتباه يتبدى في الاستنتاجات التي يستخلصها كيسنجر من القضية المأسوية. لقد يحول تلك الحادثة التي لم تجر الإشارة إليها قبل الآن، إلى “نقطة تحول في الحرب الباردة” بسبب مشاركة الصين المحتملة، بل أكثر من ذلك، إذ يصفها بأنها “الأزمة الأولى حول شكل أول نظام عالمي حقيقي في تاريخ العالم”. ويعمد كيسنجر إلى رفع سقف المعايير إلى مستوى أعلى، إلى حد طرح افتراض مفاده أن “الحرب العالمية على بنغلاديش” كانت “ممكنة”. لا تماري سوى قلة في أن نيكسون وكيسنجر تلاعبا بعلاقات الولايات المتحدة الحاسمة مع كل من الصين والاتحاد السوفياتي، أو أن بدء العلاقات مع الصين حاز قيمة استراتيجية أكبر بكثير[بالنسبة لأميركا] في عام 1971 من الحكم الذاتي لباكستان الشرقية، لكن تبقى هناك أسئلة جدية. هل يتطلب السعي وراء هذا الانفتاح على الصين الموقف الذي اتخذته واشنطن [في شأن مذبحة بنغلاديش]؟ حينما يصبح من الضروري إحاطة سياسة ما في دولة ديمقراطية بالسرية بسبب معارضة واسعة النطاق، فكم مرة ستؤدي هذه السياسة إلى نتيجة مفيدة على المدى الطويل؟ هل تؤدي الأعمال غير القانونية من قبل الحكومة، وهي في هذه الحالة عمليات نقل للأسلحة، إلى خفض عتبة السلوك السيئ الأمر الذي يقود الآخرين في داخل الحكومة وخارجها، إلى خرق القانون؟ هل أمكن إيجاد توازن أفضل مما حصل بالفعل، بين الاهتمام الواقعي بالمصلحة الوطنية والاحترام اللائق للحياة البشرية، بما في ذلك حياة أصحاب البشرة السمراء من غير المسيحيين؟ لا يمكن العثور على الإجابات هنا [في كتاب كيسنجر].
الوادع لذلك كله
يشير كيسنجر في الفصل الختامي لكتابه إلى أن الشخصيات التي اتخذها موضوعات لدراسته عاشت في عصر ذهبي كان فيه النظام الأرستقراطي الذي أنتج أجيالاً سابقة من القادة، يندمج مع نظام جديد للطبقة الوسطى مستند إلى الجدارة.
وإذ أدرك رجال الدولة الأرستقراطيون أنهم لم يكسبوا مراكزهم بجدارتهم، فقد شعروا بالواجب حيال الخدمة العامة. وقد انتمى قادة بلدان مختلفة إلى الطبقة الاجتماعية نفسها، و”تشاركوا في [شعور] بالحساسية يتجاوز الحدود الوطنية”. وبجدية وإيقاع ثابت، يرى كيسنجر أنه “بقدر ما ترقى الطبقة الأرستقراطية إلى مستوى قيمها المتمثلة في ضبط النفس والخدمة العامة النزيهة، يميل قادتها إلى رفض تعسف الحكم الشخصي، مقابل الحكم من خلال المكانة والإقناع الأخلاقي بدلاً من ذلك”. بالعودة إلى التاريخ، لا يمكن للمرء إلا أن يستنتج أنهم نادراً ما فعلوا ذلك.
على النقيض من هذا، فإن مبدأ القيادة على أساس الجدارة الذي برز في أعقاب الحرب العالمية الأولى، جعل الذكاء والتعليم والجهد بمثابة الطريق إلى النجاح. وحينما صار هناك تداخل بين الحقبتين، حصل الأفراد على أفضل ما فيهما، بيد أن نظام الجدارة، وفق ما يراه كيسنجر، يتعثر. ولا يولي المجتمع اهتماماً كبيراً جداً للشخصية، والتعليم في المدارس الثانوية، فيما لا تعطي الكليات الجامعية العلوم الإنسانية حقها. ويؤدي هذا كله إلى إنتاج “ناشطين وفنيين”، لكن ليس مواطنين، بمن فيهم رجال الدولة المحتملون. صحيح أن دراسة العلوم الإنسانية ليست رائجة بين الطلاب، لكن النقد الموجه لذلك الأمر مبالغ فيه بشكل سيئ. وادعاء كيسنجر بأن “عدداً قليلاً من الجامعات يوفر تعليماً في فن الحكم”، يتجاهل الانتشار الكبير لكليات السياسة العامة في العقود الأخيرة المكرسة لتقديم ذلك التعليم بالضبط.
وعلاوة على ذلك، يعرب كيسنجر عن أسفه لأن النخب الحالية “تتحدث عن الالتزام بشكل أقل من تناولها التعبير عن الذات أو تقدمها الخاص”. ويبدو أن هذا ينطوي على الافتراض أنه لا يمكن التعبير عن الالتزام الاجتماعي إلا في الخدمة الحكومية. إذاً، كيف يمكن للمرء أن يفسر النمو الهائل في عدد وحجم وطموح المنظمات غير الحكومية، أي الجمعيات الخيرية، والإغاثية، والمجموعات الطبية والإنسانية، والمنظمات البيئية، ومراكز البحوث، ومجموعات التنمية المجتمعية، وآخرين، منذ ستينيات القرن العشرين؟ في غالبية الأحوال، يعمل في هذه المجموعات أشخاص يعبرون عن شعورهم الفردي بالالتزام الاجتماعي. وليس هناك من يستطيع أن يختلف مع أهمية الشخصية، غير أن هنالك كثيراً من الحنين الوردي والاهتمام غير الكافي بحقائق الحاضر، في نظرة كيسنجر إلى الماضي.
يعتقد كيسنجر أن روسيا ستظل مؤثرة لعقود من الزمن
استطراداً، يقف كيسنجر على أرضية أكثر صلابة حينما يبتعد عن طبيعة القيادة، وينتقل إلى تناول العلاقات بين الصين وروسيا والولايات المتحدة. وفيما يتعلق بالمنافسة التي تزداد حدة بين واشنطن وبكين، يلاحظ أن الصين تتوقع أن تحظى حضارتها القديمة وتقدمها الاقتصادي الأخير بالاحترام، بينما تفترض الولايات المتحدة أن قيمها الخاصة عالمية ويجب تبنيها في كل مكان. يؤثر كل منهما “جزئياً بواسطة الزخم، والأهم بواسطة التصميم”، في ما يعتبره الآخر اهتماماته الأساسية. ونظراً إلى هذا التضارب ووجهات النظر العالمية غير المتوافقة، سيتعين على القوتين تعلم “الجمع بين التنافس الاستراتيجي الذي لا مفر منه وبين مفهوم التعايش وممارسته”. هذا تشخيص مفهوم على نطاق واسع. ولسوء الحظ، يغفل كيسنجر، على عادته في غالب الأحيان، معالجة مسألة مهمة للغاية هي “الكيفية” [كيف يتحقق ذلك التعلم].
وإذ ينتقل إلى روسيا، يعتقد كيسنجر أن القوة العظمى سابقاً ستبقى مؤثرة لعقود من الزمن، على رغم انخفاض عدد سكانها وضيق قاعدتها الاقتصادية. ويحذر من أنه بسبب مساحة أراضيها الشاسعة وافتقارها إلى الدفاعات الجغرافية، تعاني روسيا “إدراكاً دائماً لانعدام الأمن” راسخاً بعمق في تاريخها، هذا صحيح. عبرت كاترين العظيمة عن هذا الخوف الخاص، إذ لاحظت إنه “ليس لديَّ وسيلة للدفاع عن حدودي إلا توسيعها.” ويشير كيسنجر إلى أنه إذا انضمت أوكرانيا إلى حلف الناتو، فإن حدود الحلف ستكون “ضمن مسافة 300 ميل من موسكو” ما يقضي على العمق الاستراتيجي الذي طالما اعتمدت عليه روسيا. وقد اقترح في مكان آخر أن حل النزاع الحالي يجب أن يتمثل في التالي في جعل أوكرانيا محايدة، لكنه لم يشرح كيف يمكن ضمان أمنها إذا كانت دولة عازلة محايدة. وبعد كل شيء، تعهدت روسيا مرتين احترام سيادة أوكرانيا، مرة حينما منحت كييف مقعداً مستقلاً في الأمم المتحدة إبان تفكك الاتحاد السوفياتي، ومرة أخرى في مذكرة بودابست لعام 1994 حينما انضمت أوكرانيا إلى معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية والتزمت روسيا، مع المملكة المتحدة والولايات المتحدة، رسمياً “الامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استعمالها ضد وحدة أراضي أوكرانيا وحدودها الحالية”.
ونظراً إلى كونه مراقباً عن كثب للسياسة الخارجية التي انتهجتها الولايات المتحدة عبر فترة أطول من عمر عديد من المسؤوليين الحاليين، فإن لدى كيسنجر معرفة عميقة ككل من ينخرط في الشؤون الدولية ومعتقدات الأطراف الدوليين البارزين الفاعلين، وكذلك الحال بالنسبة إلى نقاط ضعفهم. ويتمتع كيسنجر بذاكرة لا مثيل لها، تكاد تكون غير إنسانية. إنه يعرف كيف تعقد الصفقات الدولية ولماذا قد تفشل. صحيح أن ظروف القرن الحادي والعشرين تختلف اختلافاً جوهرياً عن تلك التي عرفها كيسنجر بشكل أفضل، أي في أزمنة الـ1814، أو 1950 أو 1975، إذ باتت الحدود القومية أكثر قابلية للاختراق، والأصول المهمة بشكل حاسم توجد حالياً خارج الدولة القومية، وكذلك تزايد تأثير اللاعبين الفاعلين من خارج المؤسسة الحكومية، من منظمة “كير” CARE إلى المجرمين، أكبر بكثير. انتهت “الحرب الباردة”. وباتت الترسانات النووية والأسلحة السيبرانية الرخيصة، والمناخ المضطرب، تشكل كلها تهديدات وجودية. كذلك باتت القوة النسبية للولايات المتحدة أقل بكثير مما كانته حينما خدم كيسنجر في الحكومة الأميركية. وإضافة إلى ذلك، تغير الناخبون في كل أنحاء العالم بشكل جذري عن ناخبي “الحرب الباردة” وما قبلها، ما يجعل نماذج القرن العشرين التي يرسم كيسنجر معالمها، موضع أهمية مشكوك فيها بالنسبة إلى قادة اليوم الذين يعانون باستمرار. من أجل ذلك كله، إذا كان بوسع كيسنجر السماح للماضي بأن يبقى ماضياً، ثم يضع ما يعرفه كي يشتغل على ظروف اليوم والغد، فسيكون بإمكانه بالتأكيد أن يقدم أكثر من ذلك بكثير.
جيسيكا تي. ماثيوز، زميلة متميزة ورئيسة سابقة في “مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي”.
فورين أفيرز