استعادة ثقافات القبائل والسكان الأوائل والشعوب التي استُعمرت واحتُلت أراضيها
من فيلم “أتانارجوات” الذي نال جائزة في مهرجان “كان” (ملف الفيلم)
خلال الدورة الأخيرة، الثالثة والستين، من مهرجان تسالونيك السينمائي، سُلط الضوء على “سينما السكان الأصليين” ضمن قسم مخصص لها. والمقصود بهؤلاء قبائل الإنويت في كندا وأميركا اللاتينية وسكان أوستراليا الأوائل وشعب الماوري في نيوزيلندا، وغيرهم من الذين استُعمروا واحتُلت أراضيهم، ومع ذلك ظلوا يحافظون إلى حد كبير على ثقافتهم وجذورهم وما يميزهم عن بقية الشعوب. من خلال عرض مجموعة من الأفلام، أراد المهرجان في خطوة تحمل أبعاداً سياسية وثقافية واجتماعية، جذب الانتباه إلى أعمال أبطالها ليسوا كالأبطال الذين اعتدناهم في السينما الواسعة الانتشار على شاشاتنا. هذه الأفلام لا تتميز بشخصياتها فحسب، إنما بسعيها إلى التعريف بمجتمعات مهمشة وأساليب حياة وأنماط عيش تم نبذها طويلاً في الإطار الرسمي، لتعريفنا على العالم وعلى ما يحتويه من شعوب لديها خصوصيات تحاول صونها، في عالم يحاول باستمرار إسقاط الفروق بين البشر ومحو خصوصياتهم.
المهرجان اليوناني المستمر منذ أكثر من نصف قرن لطالما نبش قضايا سينمائية تخرج عن السائد، وبالتالي كان طليعياً في الاهتمام بسينما السكان الأصليين. هذه الاستعادة انطوت على 13 فيلماً طويلاً وأربعة أفلام قصيرة، بعضها أنجزه مخرجون هم من السكان الأصليين، وبعضها الآخر هي أفلام صورها سينمائيون لا يتحدرون من هذه الأقليات العرقية، لكنهم كلفوا أنفسهم مهمة رد الاعتبار إلى السكان الأصليين وواقعهم. وسواء كانت الصورة من صناعة مخرج ينتمي إلى واحدة من هذه الجماعات التي أصبحت أقلية في بلدان أجدادها، أم خرجت (الصورة) من مخيلة فنان يأتي من خلفية أوروبية، فالأفلام هذه اتفقت على نبذ التصوير النمطي لقضية السكان الأصليين.
سينما أنتروبولوجية
من فيلم “مراقبو الطيور” (ملف الفيلم)
أهمية سينما السكان الأصليين أنتروبولوجية أكثر منها سينمائية. لكن هذا لا يعني أنها غير مهمة فنياً. وهذا يحملنا إلى الحديث عن أهم فيلم أنتروبولوجي صُور في تاريخ السينما: “نانوك” للأميركي روبرت فلاهرتي، الذي على رغم مرور 100 عام على عرضه الأول لا يزال يُعتبر علامة مضيئة في سيرة الفيلم الوثائقي، ولا يزال النقاد يضعونه بين أفلامهم المئة المفضلة عبر التاريخ. الفيلم يصور تفاصيل الحياة اليومية لشعب الإينويت في كندا، فنرى كيف يتدبر الناس أمورهم وسط الثلوج وظروف الطقس القاسية التي لا ترحم. نتابع كيف يبحرون وكيف يصطادون ليأكلوا وكيف يصنعون بيوتهم الثلجية وكيف يتحدون الطبيعة ويتأقلمون معها. هذا كله قبل ان نتعرف على نانوك الذي يتنقل من مكان إلى آخر بحثاً عن مواد غذائية. ففي الصيف يعتاش من صيد السلمون، أما في الشتاء فتشتد الأزمة الغذائية، ليصبح العثور على الطعام معاناة في ذاتها. من خلال هذه التحفة الفنية، أراد فلاهرتي، وذلك بعد عقدين على انطلاق السينما، إلقاء تحية على هؤلاء الناس الذين تكيفوا مع ظروف طبيعية لا تُحتمَل.
أفلام السكان الأصليين التي انتقاها المنظمون في مهرجان تسالونيك أضحت مناسبة للاحتفاء باللغة، فالعديد منها ناطق بلغات ولهجات انقرضت أو في طريقها إلى الانقراض. وما هي هذه الالتفاتة لسينما السكان الأصليين سوى فرصة لهؤلاء لاستعادة صورتهم المسلوبة أو المهمشة تأكيداً للحق في تحديد طبيعة الصور التي تسهم في صناعة هويتهم على الشاشة.
من فيلم “الشقيقات كويسبي” (ملف الفيلم)
ما كان ممكناً رد الاعتبار السينمائي هذا إلى السكان الأصليين من دون عرض فيلم “أتانارجوات: العداء السريع”، باكورة أعمال المخرج الإينويتي زكريا كونوك، أو ما يُعرف بالإسكيمو، وهو الشعب الموزع بين السواحل الشمالية لأميركا الشمالية في كل من ألاسكا وكندا وسواحل آسيا وشمال شرقي سيبيريا وعلى جزيرة غرينلاد. أنجز كونوك هذا الفيلم باللغة الإنكتيتوتية، وهو اسم بعض اللغات المنطوقة من قبل الإسكيمو في كندا. تجري الأحداث في شمال شرقي القطب الشمالي، قبل سنوات طويلة من التواصل الذي حدث بين الإينويتيين والأوروبيين، وهو من وحي حكاية تقليدية. صور الفيلم في جزيرة إغلوليك على مدار ستة أشهر، وعلى رغم أن الفيلم عن مناطق بعيدة من مراكز العالم العصري ويتحدث عن شعوب بدائية، فاللافت أنه من أوائل الأفلام التي تم تصويرها بتقنية الفيديو العالي الدقة وباستخدام الضوء الطبيعي. أقدم كونوك بالتعاون مع المصور السينمائي نورمان كوهن على توظيف درجات ألوان تسهم في إدخالنا إلى عالم جديد غير مستكشف ولا نعرف عنه شيئاً، بل ويفرض جمالياته الخاصة غير المستهلكة. نال الفيلم، يوم عُرض في مهرجان كان السينمائي، جائزة “الكاميرا الذهبية” التي تمنح لأول فيلم، هذا بالإضافة إلى “نه انتُخب “أفضل فيلم كندي على الإطلاق” في التصويت الذي أجراه مهرجان تورونتو السينمائي، علماً أن فيلماً آخر عن السكان الأصليين لكندا عُرض في استعادة تسالونيك وهو “أغنية كراوفوت” لويلي دون.
توتر وسياحة
من فيلم “شمشون ودليلة” (ملف الفيلم)
من البرازيل، جاءنا فيلم “مراقبو الطيور” لماريو بيخيس الذي يحملنا إلى منطقة ماتا غروسو دو سول، حيث ملاك الأراضي يعيشون في رفاهية ويمضون لياليهم مع السياح الذين يزورون المنطقة لمراقبة الطيور. لكن، هذا لا يعني أن كل شيء على ما يرام. فعلى مرمى حجر من هذه الأماكن السياحية، ثمة توتر يتصاعد يوماً بعد يوماً داخل صفوف السكان الأصليين، الذين كانوا في الماضي الملّاك الشرعيين لهذه الأراضي. العديد منهم أقدم على الانتحار بعدما فشل في إيجاد عمل سوى العمل في مزارع السكر. إحدى هذه الحوادث أفضت إلى انتفاضة خطيرة. إلا أن كاميرا المخرج ستصوب في اتجاه العلاقة التي نشأت نتيجة الفضول بين طالب شاب وابنة مالك أرض.
العلاقة الغرامية هي أيضاً موضوع فيلم “شمشون ودليلة” لوارويك ثورنتون، الذي يأتينا من الجانب الآخر للكرة الأرضية (أستراليا) ليروي قصة حب غير تقليدية بين اثنين من المراهقين من السكان الأصليين في صحراء أستراليا. تواجه حكايتهما الكثير من التحديات الاجتماعية والمخاطر للبقاء على قيد الحياة. يظهر الفيلم الكفاح اليومي لهؤلاء الناس من أجل الصمود في بيئة يحكمها التهميش وانعدام الأفق والتمييز العرقي.
في “الشقيقات كويسبي”، يأخذنا المخرج سيباستيان سيبولفيدا إلى رحلة في اتجاه هضبة أتاكاما القاحلة في تشيلي، حيث سنتعرف إلى الأخوات هوستا ولوسيا ولوسيانا اللواتي يكرسن كل جهودهن لمصلحة قبيلتهن، وعلى رغم ذلك لديهن شعور بأنهن يعانين من الوحدة، إذ إنهن يُجبرن على قمع عواطفهن وأنوثتهن من أجل البقاء على قيد الحياة. مع تطبيق قرار الديكتاتور بينوشيه القاضي بحظر رعي المواشي في منطقتهن، تواجه الشقيقات الثلاث واقعاً جديداً وسيكون نقطة تحول تقطع مع كفاحهن الصامت للحفاظ على أسلوب حياتهن، مما يخلق انهياراً في منظومة حياتهن السابقة في ظل انعدام كل الخيارات.
أخيراً، للمخرج الأرجنتيني راوول توسو فيلم مهم في عنوان “جيرونيما” يحتل موقعاً مهماً في تاريخ السينما التي تهتم بالسكان الأصليين، وعرض في تسالونيك ضمن هذا الإطار. صحراء باتاغونيا الجليدية هي مسرح أحداث هذا العمل الذي يوثق الظروف المعيشية القاسية. تعاني بطلة الفيلم، جيرونيما، وهي أم لأربعة أطفال، لتوفير مستلزمات الحياة لهم، لكنها تتمكن في تغطية نفقاتهم. نجدها تتعاطى مع الحياة كما تأتي وتواجه المصاعب بالشيء الوحيد الذي تملكه وهو المثابرة. عندما يقرر مسؤول الصحة في الولاية التدخل من أجل “تحسين” نوعية حياة الأسرة، فإنه ينفذ بالكامل السياسات العنصرية في السبعينيات، أي في حقبة الديكتاتورية الأرجنتينية. ونتيجة محاولة التحسين المزعوم، يُقتلع جميع أفراد الأسرة الذين ينتمون إلى مجموعة شعوب المابوتشي (شعوب تتمركز في وسط وجنوب التشيلي وجنوب الأرجنتين)، ويتم نقلهم إلى إحدى المصحات. في بيئتها الجديدة، ستشعر جيرونيما بأنها إنسانة غير مرغوبة وتكافح من أجل الصمود. استخدم المخرج راوول توسو التسجيلات الأصلية للتشخيص السريري لجيرونيما كخلفية صوتية، لإضفاء المزيد من الواقعية ولتوثيق قوة الأحداث الوحشية التي ألهمت العمل.